- يستعرض المخرج بايونا التحول الجذري للشخصيات من شبان وسيمين إلى ناجين يكافحون، مستخدماً تقنيات سردية مثل "فلاش باك" لتسليط الضوء على التناقض بين الماضي والحاضر، ويدفع المشاهدين للتفكير في معنى الحياة.
- يختتم الفيلم بتسليط الضوء على القرارات المروعة التي يتخذها الناجون للبقاء على قيد الحياة، مثل أكل جثث المتوفين، مما يطرح تساؤلات حول الأخلاق والبقاء، وينتهي بنجاة المشّاؤون، معكساً فكرة أن البقاء هو إنجاز بحد ذاته.
خرج منبعثون جدد أحياءً من العواصف الثلجية، في جبال أميركا اللاتينية الإسبانية. "مجتمع الثلج" (2023)، للإسباني خوان أنتونيو بايونا، يعرض لحظات اختبار الإنسان في عزلته. لا يمكن اختبار حقيقة الفرد في ظروف الرفاهية. هكذا يسحب الفيلم (La Sociedad De La Nieve) المُشاهد من نمط حياته الآمن المرفّه، ليُلقيه في منطقة الخطر، فيضطر أنْ يطرح على نفسه أسئلة قاسية، تفرض خياراً واحداً: إمّا، وإمّا.
في مستهلّه، مشاهد قصة حقيقية عن سقوط طائرة، فيها شبّانٌ وسيمون وناجحون، ينتظرهم مستقبل واعد. فجأة، يقتحم عنصر مشوّشٌ المشهدَ. تُظلم الشاشة (قطع ـ ellipse)، ثم تشرق الشمس على واقع جديد. تَعرّض الشبان لشقاءٍ لا يستحقّونه: مات جُلّهم. هذا مدخل مشوّق، يليق بفيلمٍ نال جوائز كثيرة.
يناضل الناجون في مقاومة البرد والجوع. يكتشف الفرد حقيقة الذلّ الذي تفرضه البطن الجائعة. هنا، يلعب المخرج على موضوع معلوم للمشاهدين، لذا يعرض ولا يشرح. الجوع مدرسة تطبيقية، تُذكّر المُشاهد بحياة الإنسان البدائي في مواجهة الطبيعة. حينها، يتماهى المُشاهد مع الشخصيات التي تعيش الشقاء، ويقارن فضاءَ عيشه الآمن، ويرصد المسافة بين ما كان فيه الشبان، وما صاروا فيه بين الجبال.
يُفسّر هذا التماهي كيف وصل الفيلم إلى اللائحة القصيرة لـ"أوسكار" أفضل فيلم (2024)، وكيف حصد جوائز "غويا" الإسبانية، وكيف حقّق 150 مليون مُشاهدة على المنصة الأميركية "نتفليكس". فرغم أنّ الأحداث حصلت منذ 50 عاماً، وكُتبت ونُشرت واقتُبست، حقّقت نسخة عام 2023 نجاحاً. يُفترض بالمُشاهد أنْ تكون لديه معرفة مسبقة بالقصة، فلماذا يتابع الفيلم؟ ما الذي يميّز الشخصيات لتستحقّ المتابعة؟
الأسباب عديدة:
أولاً: وظّف المخرج أرشيف صُورٍ حقيقية. هذا رفع الجانب التوثيقي، ومصداقية الفيلم التخييلي.
ثانياً: تتكرّر واقعة متعة مُشاهَدة قصة معروفة مسبقاً (قصّة يوسف)، لأنّ المشاهدين يحبّون عيش لحظات انتصار الإرادة البشرية على الطبيعة، وعلى المصادفة العبثية. إنّها العبرة والمعنى للأحياء من كلّ موت مجاني، يجرف الآخرين باكراً.
ثالثاً: البطل شاب وسيم محظوظ، يتعرّض فجأة لأحداثٍ مأساوية لا يستحقّها، لأنّ "عطايا الحظّ لا تدوم"، بحسب أرسطو ("مسامرات الأموات واستفتاء ميت" للوقيانوس السميساطي، ترجمة الياس سعد غالي، المنظّمة العربية للترجمة، ط 1، بيروت، 2015، ص 104). يحزن البشر على وفاة شخص، يبلغ 20 عاماً، أكثر ممّا يحزنون على رحيل شخصٍ في الـ70. لمحاولة تفسير الـ"كاستينغ" العبثي، الذي يقوم به الموت، يُقدِّم راو عليم، يستخدم ضمير المتكلّم، وقائع. يفسّر أكثر ممّا يحكي، لأنّ الحكي عمل الكاميرا، التي خدمتها جغرافية المكان. راو عليم خَبِر عالم الأموات، كما في "مسامرات الأموات..."، مع فارق أنّ الفيلم تراجيدي، بخلاف كتاب السميساطي (166 م)، الذي يسخر فيه الفيلسوف منيب الكلبي من أحزان الموت، وهو يتأمّل بشاعة جمجمة هيلانة، ويستغرب كيف جهّز اليونانيون جيشاً لاسترجاعها في حرب طروادة (مرجع سابق، ص 66 ـ 70).
يستعير المخرج هذه الحيلة السردية العتيقة، ليعرض وجهة نظر ميت، وليربط بين المَشاهِد. لا يشعر الموتى بالبرد والجوع، لذا يأكلهم الأحياء، ولا يتأمّلونهم، خوفاً من نظراتهم.
هذا على صعيد تفسير التلقّي، ونظرة البشر إلى الموت. أمّا على الصعيد الجمالي، وفّرت جبال الثلج للكاميرا مواقع مختلفة لتصوير لقطات متنوّعة، لمكافحة الملل. التقط بايونا كادرات عامة في الخارج، لكشف الفضاء الخطر، والتَقَط كادرات بورتريهات داخل ما تبقى من هيكل الطائرة المحطّمة، ليُقرّب حال شخصياته المتقلّبة. بعد مرور نصف مدّة الفيلم، تحوّل الشبان الوسيمون إلى أشباح قذرة. يُطفئ البرد والجوع وسامة الشباب وصحّتهم. يشعرون أنّ موتهم الباكر حدثٌ غير عادل.
مع مرور الوقت، تدهورت معنويات الشبان، فاضطرّوا إلى فعل أشياء تعفّفوا عنها سابقاً، ثم أدمنوها ليبقوا أحياء. كلّما مر الوقت، ضاقت الخيارات، وتعكّرت الوجوه. للفهم والمقارنة، استخدم بايونا "فلاش باك" لتقديم معلومات ناقصة عن الشخصية، ولإظهار أنّ الحاضر البائس للشخصية يناقض ماضيها الزاهر. هنا، مرّر الفيلم مشاهديه في "كاتالوغ" المشاعر: دهشة وسعادة وغضب واشمئزاز وخوف وحزن. مشاعر تنتاب جميع البشر، بسبب تقلّب الأحوال والأيام.
خُسف بالشباب ليعيشوا حياة بدائية. هناك، في الجبل المعزول، يتعرّضون لاختبار البقاء أحياء في مواجهة البرد والجوع. تدحرجت كرة ثلج، فدفنت حطام الطائرة. زال الضوء الطبيعي، فصار الفيلم بالأسود والأبيض، وصار المكان ضيّقاً. هكذا أثّر الحدث على الأسلوب والكادرات.
سبّب المكان الضيق اندلاع الجدل. بعد توالي الوفيات، تجادل الشبان عن أيّهما أخلاقي وقانوني: هل يأكلون جثث أصدقائهم، أمْ يموتون جوعاً؟ ما سبب هذا الشقاء؟ ما دور الفوضى والمصادفة في حياة الفرد؟
يرفع المتحرّرون شعار الحرية، ويرفع المؤمنون نغمة كاثوليكية إسبانية متشدّدة.
الصداقة جميلة، لكنْ، كي تنجو، عليك أنْ تأكل. أنْ تأكل حتّى جثّة صديقك، لأنّ للوفاء والتعاون والتضامن حدوداً، لا يُمكن لأيّ شخص التنفّس بدلاً من شخص آخر.
من مات ارتاح، ومن بقي حيّاً يتعذّب، ويعرف أنّه سيصير وجبة لغيره، وهو ينتظر موته بألمٍ، ويتفلسف بجوعه. مع الاستمرار في المشاهدة، يكتشف المُشاهد أنّ عالم اليوم ليس مُحصّناً من الجوع. توفِّر المَشاهد، التي تبثّها وسائل الإعلام حالياً، صورة أشدّ قتامة ممّا في الفيلم.
تجري محاولات تفلسف تحت الخطر. الجوع أقوى من الأخلاق والقانون. الغريزة سابقة على قانون حمورابي. في قبضة القهر، تتراجع المبادئ، وتنعدم الخيارات. صار أمام كلّ شاب خيار واحد: إما أنْ يموت، وإما أن يصير "كانيبالياً".
عنصر الحلّ؟ تحرّكوا.
رفض شابٌّ عمليّ الجدل، وشرع يكسر الزجاج في حطام الطائرة. العمل أقوى من القول. أزاح الشاب الثلج، فظهرت السماء. نفسياً، كان ذلك بشارة أمل. فكرياً، توقّف الشبّان عن الجدل، فاندفعوا بحماسة إلى الخارج ليبقوا أحياء. إنّها الحقيقة الوحيدة المهمة التي توصّل إليها الشباب بالتجربة وليس بالتفلسف. بصرياً، تغيّرت الإضاءة، وصارت الشمس الخجولة ترسل أشعة صفراء تنعكس على الثلج فتتلوّن. تتغيّر إضاءة صفحة الثلج تبعاً لموقع الشمس في السماء. هكذا نبع أسلوب الإخراج من الحدث، ولم يتمّ إقحامه من الخارج.
غادر الشبان الأكثر عزيمة موقع الحطام بحثاً عن حلّ، بدل الانتظار. من لا يحبّ صعود الجبال سيدفن حيّاً تحت الثلج. المعنى ضروريٌّ لتحريض الإرادة البشرية. فمن دون معنى الحياة، يغرق البشر في اليأس واللامبالاة. يندفع الأكثر عزيمة للبحث عن الخلاص. هنا، يستثمر خوان أنتونيو بايونا المؤهّلات المكتسبة للشبّان لحَلّ المشكلات الطارئة.
في النهاية، ينجو المشّاؤون.
قمة التراجيديا ليست إنجاز عمل بطولي، بل تحقيق الحدّ الأدنى: البقاء على قيد الحياة في ظروف مزرية. في لحظة النجاة، يحصل الشاب على وجبة ساخنة. أيُعقل أنْ يكون المطبخُ قمّةَ الحضارة؟