ارتبط الفن الغربي، خلال القرون الوسطى وحتى عصر النهضة، بقصور الملوك والنبلاء؛ لأنهم كانوا الرعاة الوحيدين للفن وقتها. ومثلت اللوحات التي تصور الفخامة والترف الذي يعيش فيه هؤلاء الملوك والنبلاء، جانباً لا يستهان به من تاريخ الفن الغربي. في هذه اللوحات، كان يراعى دائماً تأكيد إبراز سمات الهيبة عبر العديد من التفاصيل، من الملابس والحلي والخلفية التي تتمتع عادة بالحيادية، وحتى الهيئة التي يتخذها هؤلاء الأشخاص. وهذه كلها مظاهر تعكس المكانة والسلطة التي كانوا يتمتعون بها.
يُنظر اليوم إلى هذه الأعمال كإرث إنساني ومرجع مهم لأسلوب الحياة المترف للعائلات الملكية في أوروبا خلال تلك الفترة. ماذا لو أعدنا صوغ هذه الأعمال الكلاسيكية على نحو معاصر، واستبدلنا هؤلاء النبلاء، بآخرين ينتمون إلى ثقافة مختلفة؟ هل ستتغير حينئذ مظاهر السلطة وسماتها؟ هذا بالفعل ما أقدم عليه الفنان الأميركي كهيندي وايلي في تجربته التي بدأها في عام 2012.
كفنان من أصول أفريقية، قرر وايلي أن يكون أبطال لوحاته من القادة والزعماء الأفارقة، خصوصاً أن القارة السمراء كانت بعيدة عن هذا التمثيل الكلاسيكي للسلطة طوال تاريخها. على مدى سنوات، سافر وايلي عبر القارة الأفريقية لمقابلة الرؤساء والقادة الأفارقة الذين وقع اختياره عليهم ليكونوا أبطالاً للوحاته. توضح كل لوحة من اللوحات التي رسمها الفنان لهؤلاء القادة، وجهة النظر الخاصة لكل شخصية حول القيادة، وما يعنيه أن تكون زعيماً أفريقياً معاصراً.
يعرض وايلي حالياً جانباً من أحدث أعماله تلك في متحف كواي برانلي - جاك شيراك في العاصمة الفرنسية، تحت عنوان "متاهة السلطة". يستمر المعرض حتى 14 يناير/كانون الثاني المقبل، ويضمّ أعمالاً لم تعرض من قبل في هذه التجربة الممتدة.
يؤكد وايلي أن لوصول باراك أوباما إلى منصب الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية عام 2008، كان له دور مهم في إقدامه على إعادة رسم تمثيلات السلطة من منظور أفريقي. كان لأوباما أيضاً فضل في الانعطافة الكبرى في مسيرة هذا الفنان، حين وافق على طلبه بأن ينضم إلى غيره من الزعماء الذين رسمهم. انتهى وايلي من رسم لوحة أوباما عام 2018، بعد أشهر قليلة على انقضاء ولايته. من هنا، جاء التحول في مسيرة وايلي، فبعد أن كان معروفاً داخل الدوائر الفنية فقط، ذاع صيته في أنحاء الولايات المتحدة الأميركية وخارجها. انتشرت صورة أوباما ذات الخلفية المزينة بأوراق الشجر، وانفتحت معها أبواب القاعات والمؤسسات الفنية في كل مكان في العالم لأعمال وايلي.
من بين أبرز الشخصيات التي رسمها الفنان الأميركي في معرضه الحالي يأتي الرئيس النيجيري السابق أولوسيغون أوباسانجو، وكذلك الزعيم السابق لمدغشقر هيري راجاوناريمامبيانينا، والرئيس الحالي لجمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسيكيدي.
زار وايلي هؤلاء الزعماء في بلدانهم، وأحضر معه كتاباً يحتوي على عشرات الصور للأعمال الفنية الكلاسيكية التي أبدعها فنانو أوروبا للملوك والنبلاء خلال القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر.
كان على كل رئيس أو زعيم أفريقي أن يختار بنفسه الطريقة التي يحب أن يظهر بها، وتتوافق مع ثقافته ونظرته لما تعنيه السلطة أو القيادة. اختيارات هؤلاء القادة دائماً متوافقة مع النماذج الجاهزة التي جمعها الفنان، كما يقول، إذ فضل العديد منهم استحضار عناصر ومفردات من ثقافتهم المحلية.
يوضح وايلي أن متاهة السلطة التي يشير إليها العنوان، هي تلك المتاهة التي يخوضها بمشاركة كل شخصية، فالشخصيات التي يرسمها في هذا السياق هي التي تقرر كيف تريد أن يُنظر إليها. كل ما كان يفعله وايلي، كما يقول، هو الاستجابة لهذه الطلبات التي تستند بلا شك إلى تاريخ ممتد من صناعة الصورة والسلطة معاً. يوضح الفنان أن مجموعته تلك ليست احتفاءً بهؤلاء القادة، فكل اهتمامه منصب على مفهوم السلطة نفسها ونظرة هؤلاء الأفراد إليها، ما ينعكس على طريقتهم في التعاطي مع الصور.
في كل صورة من صور الرؤساء والقادة الأفارقة الذين رسمهم الفنان، حرص وايلي، كما يقول، على التعمق في وجهات نظرهم ومثلهم العليا. وتكشف أيضاً عن تنوع أذواقهم، والوسائل والإشارات التي يستخدمونها لرسم صورتهم الشخصية أمام الجماهير. كل لوحة من هذه اللوحات تحمل مزيجاً ساحراً يجمع بين القديم والجديد. تجتمع في هذه الأعمال الزخارف والرموز الأفريقية التقليدية مع دقة وإتقان لوحات البورتريه الكلاسيكية، والنتيجة هي هذا المزيج الزاخر بالجمال الذي يعكس الهويات المركبة لهؤلاء القادة الأفارقة.