استمع إلى الملخص
- مخاطر وتحديات: يتعرض الأطفال لمحاولات استدراج من قبل بالغين للحصول على معلومات شخصية، مما دفع بعض الدول لاتخاذ إجراءات صارمة ضد المنصة لحماية الأطفال.
- إجراءات وتوعية: بدأت "روبلوكس" في تنفيذ إجراءات لحماية الأطفال، مثل تمكين الأهل من مراقبة نشاط أطفالهم، وتعمل شركات مثل "سيف أون سوشال" على توعية الأطفال وأهاليهم بمخاطر الإنترنت.
نكاد لا نصدق اليوم حياة عمال المناجم القاسية في أواخر القرن التاسع عشر، وتبدو لنا كما لو أنّها فصلٌ مضى من التاريخ. لكنّ أشباح الماضي تعود بأشكال قد لا نتوقعها، فحلكة الفحم ومناجمه تظهر اليوم بصورةٍ مختلفة، ملوّنة وبراقة. وبدلاً من عمّال المناجم الذين سمعنا عنهم، نرى حشداً جديداً من ملايين الأطفال يقضون معظم وقتهم في "ميتافيرس"، يختبرون بعضاً مما عاشه أجدادهم العمال، ويتعرضون أيضاً إلى سلسلة لا تتوقف من المخاطر، تبدأ في استغلال قوة عملهم، ولا تنتهي باستغلال أجسادهم. كلّ ذلك يحدث في "روبلوكس" وتفرّعاتها، منصة الألعاب الشهيرة التي تعتمد على إشراك مستخدميها في تطوير ألعابهم الخاصة ونشرها أمام المستخدمين الآخرين.
المثير للاهتمام هو أن "روبلوكس" تكاد تكون مغمورة بالنسبة إلى الشباب الذين تزيد أعمارهم عن 25 عاماً، وتنتشر بين الأطفال والمراهقين ممن يقضون ساعات طويلة في هذا العالم الافتراضي الكبير. ينخرط بعضهم في تطوير الألعاب الجديدة في ظروف تكاد لا تصدق، بينما يكتفي الآخرون باللعب واكتشاف عوالم مجهولة، والتعرف إلى أشخاص جدد عبر خصائص الدردشة التي توفرها المنصة. الحديث عن "روبلوكس" لا تتضح معالمه إلّا إذا علمنا أنها منصة تضم 207 ملايين مستخدم نشط شهرياً، منهم 79 مليوناً يستخدمونها يومياً. ويشكّل الأطفال تحت سن 13 نسبة 53% من إجمالي المستخدمين، بعدد يتجاوز 32 مليون طفل. والأهم من هذا كلّه أننا نتحدث عن واحدة من أكثر المنصات شهرة في أوروبا وأميركا، إذ نجحت في تحقيق إيرادات وصلت إلى 1.6 مليار دولار في النصف الأول من عام 2024 وحده.
بعد أن تعرضت إدارة "روبلوكس" إلى ضغوط كثيرة خلال الأسابيع الماضية، تحديداً بعد تكرار حالات لاستغلال الأطفال عبر المنصة، بدأت اعتماد إجراءات ترتبط بتقييد نشاط الأطفال في المنصة، وفسح المجال لأهاليهم لمراقبة أبنائهم في هذا العالم الواسع. لكنّ مدى جدوى هذه الإجراءات لم يتضح بعد، خصوصاً أن "روبلوكس" تبدو عالماً غير مفهوم بالنسبة للكبار، ولا يستطيعون في الغالب فهم ما يجري فيه تماماً.
تقول أم لطفلة مصابة بالتوحد تعمل على "روبلوكس" إن "الأطفال يتقدمون على الآباء بخطوة واحدة هذه الأيام، كنا نظن أن لعبة "روبلوكس" بريئة تماماً، وبدائية للغاية، لكنّها عالم كامل موجود في اللعبة التي لم نكن نعرف عنها شيئاً". الأم التي صرحت لوسائل إعلام عدة فوجئت في أحد الأيام بأن ابنتها البالغة من العمر عشرة أعوام استطاعت التلاعب بالجهاز اللوحي الخاص بالأم، وأنفقت داخل "روبلوكس" ما يعادل أكثر من 2500 جنيه إسترليني.
قد تبدو "روبلوكس" متجراً للألعاب، ينفق فيها الأطفال مخصصاتهم داخل العالم الافتراضي. لكنّ الصحافي المتخصص بعالم الألعاب، كونتنت سميث، ذهب في بحثه إلى أبعد من ذلك، فهذه المنصة تعتمد على إنتاج كم هائل ومتنوع من الألعاب يومياً، تجاوزت في عددها 40 مليون لعبة حتى الآن. ويتاح للمستخدمين، الذين يشكل الأطفال تحت 13 سنة أكثر من نصفهم، أن يصمموا الألعاب الجديدة باستخدام أدوات برمجية متاحة ضمن "روبلوكس"، ثم ينشرون ألعابهم. وعلى هذا الأساس، يرى كثير من المختصين، ومنهم سميث، أن ما تفعله "روبلوكس" هو في الواقع عمالة أطفال.
قد يبدو الأمر مستغرباً للوهلة الأولى، لكن في الواقع أرباح الشركة تعتمد كثيراً على ما ينتجه هؤلاء الأطفال، لا بل إن موقع مور بيرفكت يونيون المتخصص بقضايا العمال أنتج وثائقياً قصيراً على "يوتيوب" ليتحدث تحديداً عن هذه الظاهرة، والتقى مع بعض الأطفال والمختصين، ليشرح ما الذي يحدث داخل هذا العالم بالضبط، وخلص إلى أنه في هذا العالم الافتراضي تجرى كل المعاملات التجارية بعملة خاصة تسمى "روبوكس" يمكن للأطفال عن طريقها شراء إكسسوارات إضافية ومزايا أخرى للألعاب المتاحة.
وتعمل المنصة على تحفيز الأطفال لإنفاق المزيد من العملة، وتتيح لهم في الوقت نفسه كسب المال، عبر إنشاء ألعاب جديدة، أو حتى عبر ألعاب المقامرة، وهو ما خلق سوقاً يجرى تشغيل الأطفال فيها أملاً في أن يكسبوا المزيد من عملة "روبلوكس" الخاصة، بل إن منصات أخرى عديدة، تحديداً تلك المتخصصة في العمل عن بعد، تشغّل أطفالاً متمرسين لسنوات لإنجاز كمية أكبر من الألعاب. يقول سميث إنه التقى ببعض هؤلاء الأطفال: "تحدثت مع بعض المطورين، كان جزءاً منهم بعمر الـ14 عاماً، يعملون في العطلة حوالي عشر إلى 12 ساعة، على أمل أن ينجزوا اللعبة المطلوبة للمُشتري الذي يمكن أن يكون طفلاً آخر لم يلتقوه من قبل".
رأى سميث تشابهاً بين ظروف عمل هؤلاء الأطفال، وعمال مناجم الفحم في الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ ففي تلك الفترة وصل الاستغلال إلى الحد الذي كانت فيه الشركات تدفع لعمالها ما عرف باسم "سندات الشركات" التي يستطيعون إنفاقها في المجمعات والمتاجر التابعة للشركة حصرياً. وإذا ما أرادوا أن يبادلوا سنداتهم بالدولار الأميركي، كانوا يجبرون على دفع رسوم باهظة تذهب لصالح الشركة. أما لاحقاً، وبعد نضال عمال المناجم الطويل، أجبر القانون الأميركي عام 1938 أرباب العمل على أن يدفعوا الأجور بالعملة القانونية.
لكنّ هذا لا ينطبق على "روبلوكس" وعالم الإنترنت؛ فبحسب الصحافي المختص، يتلقّى الأطفال أجورهم بعملة "روبوكس" وهم أحرار في استخدامها داخل المنصة في مقابل نسبة تقتطعها الشركة لا تقل عن 30%، لكن إذا ما أرادوا تحويل هذه الأموال إلى دولار أميركي فعندها سيكونون مجبرين على خسارة حوالي 70% من قيمتها، في نظام يشابه آليات استغلال عمال المناجم إلى درجة صادمة، بل إن المستخدمين إذا ما أرادوا شراء"روبوكس" فهم يدفعون قيمة مختلفة تماماً.
أما هاريسون، وهو طفل في الثامنة من عمره، بدأ باستخدام "روبلوكس" من عمر الخمس سنوات، فيروي مشكلة أخرى يتعرض لها الأطفال في هذا العالم الخطر، وهي وجود أشخاص بالغين يحاولون استدراج الأطفال لإعطاء معلومات عن هويتهم الحقيقية وأين يسكنون. يقول هاريسون إنه واجه مواقف كهذه في كلّ الألعاب تقريباً، ولكنّه يشرح كيف يتمكن من تمييز البالغين من الأطفال، وذلك من خلال سرعتهم في الكتابة. يقول إن البالغين يكتبون جملاً طويلة بسرعة ملحوظة، وهذا يكفي بالنسبة له لتمييز أنّهم أشخاص مضطربون ينتحلون شخصيات مزيفة.
وحول هذه المسألة بالتحديد، تعمل شركة سيف أون سوشال على إنشاء برامج توعوية وتعليمية تستهدف الأطفال وأهاليهم لتعريفهم بمخاطر التي قد يواجهونها في عالم الإنترنت. أجرت الشركة كثيراً من الجلسات في أماكن متنوعة. تقول إحدى العاملات في الشركة، كيرا بندرجاست، إنّها تركّز على تصوير تفاعل الأطفال مع "روبلوكس" على أنه زيارة لمكان وليس مجرد لعب لعبة، تماماً مثل تجربة زيارة مركز تسوقٍ ضخم بمفردهم: الأطفال إذا كانوا يتجوّلون بمفردهم في مركز تسوق حقيقي، وعرضَ عليهم شخصٌ غريبٌ المال مقابل أنشطة غير لائقة؛ سيكون رد الفعل الفوري هو الفرار والبحث عن شخص بالغ موثوق به والإبلاغ عن الحادث للسلطات". وترى بندرجاست أن تصوير"روبلوكس" بهذا الشكل يمكن أن يحمي الأطفال من المخاطر.
حالات التحرش التي يتعرض لها الأطفال في هذا العالم كانت أحد المواضيع التي تناولتها وسائل الإعلام، بل واتخذت دول، مثل تركيا، إجراءات، مثل حجب المنصة نهائياً في البلاد. لكن المتحرشين الذين وجدوا في المنصة مساحة واسعة لاستهداف ضحاياهم من الأطفال، يملكون طرقاً ملتوية كثيرة، تبدأ من إخفاء هويتهم وأعمارهم وتصل إلى استدراج الأطفال إلى منصات أخرى أو حتى الوصول إليهم بالفعل؛ فهم يلجأون إلى طلب خدمات محددة من الأطفال مقابل تحويل مبالغ من "روبوكس"، وقد تكون هذه الخدمات في بعض الأحيان إرسال صورة مخلّة للأطفال. أما في حالات أخرى، فقد استطاع المتحرشون الوصول إلى الضحايا، وسُجّلت حالات اعتداء واغتصاب؛ ما فرض على "روبلوكس" زيادة الضوابط على استخدام الأطفال.
وفي الشهر الحالي، ستعلن المنصة التعديلات المقرَّة لحماية الأطفال، وتقول إن الإجراءات الجديدة تتيح لذوي المستخدمين دون سن 13 عاماً، من خلال حساباتهم الخاصة وهواتفهم الذكية، متابعة نشاط أطفالهم على المنصة من دون الحاجة إلى استخدام حسابات الأطفال أو أجهزتهم. أصبح الأهل قادرين على التحكم في الوقت الذي يمضيه أولادهم في اللعبة، وفي قائمة الحسابات التي يتواصلون معها، إلى جانب ابتكار نظام لتصنيف الألعاب بناءً على محتواها، تمنح الأهل إمكانية تحديد النمط المناسب لأطفالهم على أساس وعيهم وليس أعمارهم.
على الرغم من أن خطوات كهذه هي إجراءات ضرورية وفي الاتجاه الصحيح، إلا أنّها لا تحل المشكلة، والأهم من ذلك أن النموذج التجاري الخاص بهذه المنصة لم يتغير وسيظل ملايين الأطفال يعملون بمجال مرهق من دون أدنى حدّ من الرقابة، وسيكونون تماماً مثل حال عمال المناجم التي ألهمت ميرل ترافيس في أغنيته الشهيرة "ستة عشر طناً" التي يتحدّث فيها بلسان أحد هؤلاء الذي يحتجّ على واقعه ويعترف أن روحه باتت مرهونة لمتاجر الشركة.