لنفترض أنها مدينة: نيويورك التي نسي سكّانها كيف يمشون

09 فبراير 2021
أنجز سكورسيزي في عام 2010 فليماً وثائقياً عن الكاتبة (Getty)
+ الخط -

بدا إعلان "نتفليكس" عن خطتها الطموحة مطلع العام الحالي كإشارةٍ جريئة لعملائها ومنافسيها على حدٍ سواء. ففي الوقت الذي تُثار فيه الأسئلة حول المستقبل والآثار الاقتصادية لجائحة فيروس كورونا، تعلن الشركة خطة بثٍ تقدم فيلماً جديداً، وبأنها باقية هنا لتسلية ملازمي المنازل، ولن تختفي في أي وقت قريب، وترسل إشارة إلى منافسين، مثل "ديزني" و"وارنر براذرز"، مفادها أن اللعبة هذا العام لن تكون سهلةً.

وبين العناوين الكثيرة التي طرحتها "نتفليكس" قد يسهل تجاوز سلسلة "لنفترض أنها مدينة" Pretend It’s a City الوثائقية لسبب أو لآخر، إلا أنها في الحقيقة واحدة من الأعمال التي يمكن استفتاح العام بها.

تمثل السلسلة ثاني عملٍ وثائقي تنتجه المنصة للمخرج مارتن سكورسيزي الذي يبدو أنه بعد إنتاج "نتفليكس" أيضاً لفيلمه "الأيرلندي" The Irishman، وصل إلى الحد الذي يدفعها لائتمانه على الميزانية التي يريدها للعمل الذي يريده. وإذا كانت السلسلة ثاني تعاون وثائقي بين الجهتين، فهي ثاني عملٍ يخرجه سكورسيزي بحضور البطلة نفسها، الكاتبة الأميركية فران ليبويتز، بعد إخراجه الفيلم الوثائقي Public Speaking عنها عام 2010.

ثمة ما يقال دائماً
لا بد من سببٍ وجيه كفاية لإقناع الأطراف الثلاثة بالعمل مرة أخرى، وفقاً للثنائيات التي تحدثنا عنها، كل واحدة على حدة. وقد يكون هذا السبب متعلقاً بالدرجة الأولى بليبويتز نفسها التي تحمل ثقل العمل كاملاً، ونرى من منظورها نيويورك التي يدعي الجميع أنها مدينة، والفروقات بين الحياة في الأمس واليوم. ونسمع عبر مزيجٍ من المقابلات الجديدة والقديمة رأيها عن أي شيءٍ تقريباً، كالتكنولوجيا والأدب واليوغا والتدخين والمخدرات والرياضة. 

إحصائياً، لا تحظى النساء بعمر ليبويتز (70 عاماً) بذاك الحضور على الشاشة، ولا يستطيع المرء إلا أن يتساءل عن السبب بمجرد متابعته لأولى حلقات السلسلة. إذ يمكن للذين يشاهدون ليبويتز للمرة الأولى أن يفترضوا ما تقوله مجرّد سخطٍ عام غير موجه من شخصٍ -باعترافه الشخصي- عاجزٍ عن مواكبة سرعة هذا العصر، إلا أن ذلك يتبدى سريعاً، وينال المشاهد بدلاً منه آراء حادة وذكية وساخرة تصلح -في عصر اليوم- لاقتطاع أي منها وجعله اقتباساً، مثلما تفعل حين تتبع تاريخ الحلوى والحشيش، وكيف انتهى المطاف بأطفالٍ بلا حلوى وأهالٍ يمضغون حلوى الحشيش، أو حين تحلل طريقة تعاطينا مع الأعمال الفنية والمزادات التي تقام لأجلها.

سينما ودراما
التحديثات الحية

إن هذه القدرة في رصد مجمل التناقضات التي نعتبرها أحياناً بمثابة المسلمات، والقدرة على عرضها بهذا الشكل الدقيق والفكاهي، هو ما يجعل من ليبويتز أعمق من كونها تجسيداً لمتلازمة "الكهل الغاضب" التي وإن كانت ممتعة أحياناً، فهي لا تتعدى كونها مجرد صورة نمطية تكشف عن خوائها نهاية الأمر. أما ليبويتز، على الجهة الأخرى، فإن غضبها، وحتى بعدها عن الحياة المعاصرة، ليسا الغاية بحد ذاتها، أو العرض الرئيسي إن صح التعبير، بل مجرد وسيلة للتعليق على الحياة اليوم، على عدة مستويات.

فحين تتحدث عن العلاقة بالأدب اليوم، وبحث القارئ عن "انعكاسٍ" له في العمل الأدبي، فإنها تصيب على عدة نقاط تتعلق باليوم، تبدأ بالذاتية الزائدة وغرف الصدى التي نحاط بها اليوم وتنتهي -للمفارقة- بكون "نتفليكس" منصة تعتمد على التنبؤ لاقتراح العمل التالي الذي سيتابعه المشاهد، اعتماداً على ما باتت تعرفه عنه كي لا تخاطر وتزجه في منطقة غريبة عنه. وفي الحقيقة، فإن استخلاص هذه النقاط كلها يمكن أن يشكل مهمة مرهقة على مدى الحلقات كلها بسبب كثرتها.

المدينة والإنسان
ولننتقل إذن إلى الحديث عن مخرج العمل مارتن سكورسيزي. إن كان ثمة شيء يمكن تتبعه عبر أعمال المخرج الأميركي، فهو ولهه بمدينة نيويورك، وهو ما يجعل من ليبويتز شريكة مثالية لسكورسيزي. لكن، كيف تحضر مدينة في عمل كهذا؟ لا شك أن الإجابة ستبدأ عند ليبويتز نفسها، بما تذكره عنها كحاصل علاقات بين العمار والشخوص والأحداث. والواقع أن ذاكرة ليبويتز تسعفها في هذا الشأن، وتسرد ما تعرفه وخبرته عن علاقة تشارلز مينجوس بديوك إيلينغتون، وحضورها نزال كلاي وفرايزر التاريخي، فضلاً عن معرفتها بشوارع المدينة التي تنافس عليها سائقو سيارات الأجرة الحاليون (بصفتها سائقة سيارة أجرة سابقة).

يدعم سكورسيزي هذا الجانب بصرياً، بمزيج من المقاطع القديمة للمدينة أو المقابلات مع ليبويتز التي تتخللها دائماً مشاهد وقوف الكاتبة الأميركية بجانب مجسم المدينة الذي صممه روبرت موزيس عام 1964، ويعطي سرد القصص عنها بعداً آخر، وتذكيراً بالشوارع الخاوية التي بتنا معتادين عليها اليوم، إضافةً إلى مقاطع سينمائية من أفلام سكورسيزي نفسه أو غيرها التي تغني هذه الحكايات بصرياً.

وإزاء موضوعٍ بهذه الذاتية، ومعرفتنا بحضور المخرج أمام الكاميرا في معظم المقابلات، يحتمل أن نكون أمام مزاحمة ومنافسة على البطولة، إلا أن ما يجري يشكل النقيض تماماً، ونجد سكورسيزي ملتزماً الصمت، أو لاعباً دور الميسر ليكون صوت ضحكه، على ما تقوله ليبويتز، أكثر ما يذكره المشاهد عن المخرج أمام الكاميرا، وهو ما يقول الكثير حقيقةً عن الاثنين. 

ليس غريباً على سكورسيزي العمل مع العمالقة، كما تظهر أفلامه الوثائقية، كـ Rolling Thunder Revue: A Bob Dylan Story وإن لم يكن وثائقياً بالمعنى الذي نعرفه، وقبله No Direction Home وكلاهما عن بوب ديلان. وفي هذه السلسلة فإن ما يقدمه المخرج ليس أفقر من حيث المادة أو الشكل. وبينما يُبرَر لنا –نحن من نجهل نيويورك- ألا نشعر بالصلة الحميمية مع كل أجزاء السلسلة، إلا أننا سنتساءل متى نرى تجارب بهذا الشكل تروي قصص مدننا، وسنشعر بهذه الصلة في مواضع أخرى، على الأقل لمن خبر منا هذا الانتقال التكنولوجي، أو عرف الفرق بين التجوّل في مكتبة من دون وجهة، وبين طلب الكتاب بحد ذاته، أو لمن يطمح بكل بساطة ليعيش أوقاتاً أقل تعقيداً، حيث يمكن لشخصٍ يمتهن الكتابة ويعيش بهذا القدر من الفوضى والتناقضات، أن ينجو كل شهرٍ على حدة، وأن يخرج بخلاصات وتجارب عن ما هو أوسع من مجرد القدرة على النجاة.

المساهمون