حذفت صحيفة "البعث" السورية تحقيقاً من موقعها على الإنترنت عن تجارة الأعضاء في سورية، دون إعطاء تفسيرات، على الرغم من انتشاره في وسائل إعلام قريبة من النظام، ومواقع إلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي، وكذلك في وسائل إعلام المعارضة.
تحقيق الصحيفة الذي كان قد نُشر في 13 من الشهر الحالي حمل عنوان "تجارة الأعضاء.. نشاط تجاري تحت غطاء التبرع!"، استمر لعدة أيام قبل حذفه، وتحدث عن أن عملية الحصول على أعضاء السوريين باتت أسهل وأرخص، في ظل سوء الأوضاع الاقتصادية وارتفاع نسبة البطالة.
وحمّل التحقيق المسؤولية عن بيع الأعضاء لما أسماها "مافيات"، ومنظمات طبية وغير طبية، بدءاً من الكشف على الضحايا، وصولاً إلى إجراء العملية، وقال إن خطورة هذه التجارة تكمن في انتقاء الضحية، فهي تستهدف الأصحاء ومن هم في سن الشباب.
"تحقيق البعث لم يحدد طبيعة تلك المافيات الضالعة في تجارة الأعضاء البشرية، إلا أن حذفه وجّه الأنظار أكثر إلى خطورة ما تضمنه من معطيات عن انتشار الظاهرة، وهو يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك الأنباء التي تحدثت في وقت سابق عن تورط النظام بتجارة أعضاء بشرية"، حسبما يرى الكاتب والمحلل السياسي حافظ قرقوط.
ويضيف قرقوط لـ"العربي الجديد" أنّ "هذا الموضوع الحساس والمؤلم لم يتطرق له إعلام يديره النظام في السنوات السابقة، نظراً لخصوصيته، ولكن الآن مع تردي الوضع الاقتصادي بهذه الحدة في مناطق سيطرته، ومع توقف العمليات العسكرية التي كان يستثمرها، بات من الممكن أن تتسرب بعض التقارير ربما عن سوء تقدير. ومن أجل سبق صحافي دون الإدراك أن مثل هذه العمليات مرتبطة بمافيات النظام، وأن تحقيقاً كالذي نُشر قد يطاول بالنتيجة أسماءً حساسة ومهمة في منظومة الأسد الأمنية والمقربة في سوريا ولبنان أيضاً".
ويرى قرقوط أن "أي تقرير صحافي يضيء على جانب من فساد في سورية يطاول مباشرةً مركزية قرار الفساد في رأس هرم هذه العصابة المتحكمة بالبلاد والعباد، و يمكن القول إنه مجرد السؤال عن مافيات تبيع أعضاء بشرية سيفتح تساؤلات عن المختفين قسراً في سورية منذ سنوات، ولا توجد معلومات توثق حالاتهم وكثير من هؤلاء اختطفهم الأمن من بيوتهم وعن الحواجز أو غير ذلك أو عصابات تتبع له ولهذا بالنسبة إليه خط أحمر فتح تحقيقات كهذه. أيضاً هو يعلم تماماً أن الجميع، بمن فيهم أتباعه، يدركون أنه يقف خلف كل متاجرة بأزمات الناس وجوعها، وأنه يستثمر ذلك بتوسع تجارة الأعضاء".
ويتفق الكاتب والصحافي عدنان علي مع قرقوط بأن "هناك أطرافاً متضررة من تحقيق الصحيفة، هي وراء الضغط لحذفه، إلا أنه يشير إلى نقطة أخرى، وهي أنه في بلاد مثل سورية، فإن المواد ذات المواصفات الجيدة، غالباً ما تُحارَب، بدءاً من سلطات الرقيب داخل الجريدة، إلى قمع الجهات الرقابية الوصائية التي تحدد كثيراً من الموضوعات الحساسة كممنوعات، مثل سلطات الجيش والأمن وعائلة الرئيس وأقربائه والحيتان الاقتصادية ورجال الدين المقربين من السلطة وغيرهم".
ويرى المحلل السياسي وائل الخالدي أن "المافيات التي تحدثت عنها الصحيفة هي مليشيات إيرانية وسورية تتعاون مع عصابات الجريمة المنظمة، لدرجة أنها بدأت بفتح عيادات بيع أعضاء بشرية في طهران والضاحية الجنوبية لبيروت"، مشيراً إلى "وجود عصابات روسية أيضاً تشترك مع النظام في عمليات الإتجار بالأعضاء البشرية".
من جانبه، يرى الأستاذ في جامعة دمشق سابقاً، الدكتور طلال مصطفى، أنّ من غير المسموح في الصحافة السورية الحديث عن ظاهرة بيع الأعضاء البشرية، ويقول إن "جميع أنواع التجارة الممنوعة تقوم بها أجهزة أمن النظام السوري، ومنها تجارة الأعضاء البشرية، حيث تحولت المشافي العسكرية في مناطق سيطرة النظام إلى ما يشبه المؤسسة التجارية لبيع الأعضاء البشرية المطلوبة من المصابين، موالين أو معارضين".
ويحدد الدكتور مصطفى طبيعة ظاهرة تجارة الأعضاء البشرية، ويقول إنها أصبحت تجارة علنية حيت تجد الإعلانات على الجدران في الشوارع المزدحمة في دمشق وأيضاً في مناطق العشوائيات الفقيرة جداً، خاصة بعد أن باع السوريون كل أملاكهم، فلم يعد لديهم سوى أعضائهم الجسدية. ويضيف طبيعة: "قبل عام 2011، كان من الطبيعي أن تقرأ إعلانات مطبوعة تدعو إلى التبرع بكلية (بيع كلية) مع وجود رقم هاتف الشخص الراغب في شراء الكلية، وخاصة على جدران مشافي دمشق من الخارج، وبالتالي يمكن القول إن جريمة الاتجار بالأعضاء البشرية ليست جديدة في سورية، بل يمكن الحديث عن ارتفاع نسبة الظاهرة في فترة الحرب السورية وما نجم عنها من فقر مطلق إلى حد الجوع، وبالتالي لوحظ أن الأشخاص الراغبين في البيع هم من يعلنون رغبتهم (حاجتهم) في بيع الكلية".
وتضمن تحقيق الصحيفة استطلاعاً لآراء عدد من الأطباء أكدوا، بحسب الصحيفة، أن جريمة الاتجار بالأعضاء أصبحت تمارس بشكل علني أو شبه علني، وأنها تخفي ما هو أخطر منها، وما هي إلا طرف خيط يوصل إلى شبكات تشتري الأعضاء البشرية من المواطن السوري، وتبيعها داخل البلاد أو خارجها بأسعار مضاعفة بعد دفع مبلغ يعادل 15 ألف دولار ثمن الكلية مثلاً، وتستغل تلك المافيات غياب الرقابة بشكل تام.
وأورد التحقيق بهذا الصدد قصة عامل بـ"اليومية" في منطقة حرستا، اضطر إلى السكن مع عائلته في منزل إيجار في أحد أحياء مدينة دمشق، ومن ثم اضطر إلى بيع كليته بمبلغ 30 مليون ل. س ليجري عملية قلب مفتوح لابنه الوحيد، وشراء الأدوية المساعدة له على الحياة، وليسدّد ما عليه من ديون متراكمة ومتفاقمة.
وأشار إلى أن زوجة العامل عرضت هي الآخرى كليتها للبيع بالمبلغ نفسه، ولكن ليس لسداد الديون أو لإجراء عمل جراحي لابنها هذه المرة، بل ليتمكنوا من شراء منزل صغير يمثل الخلاص من كابوس الإيجار ومصاريفه التي فاقت طاقة زوجها، ولشراء سيارة أجرة للعمل عليها، وتحقيق عائد مادي يساهم في إعادة اللون إلى حياتهم، بعد أن طال بهم البؤس، إضافة إلى قصص وحالات كثيرة مشابهة تنال بالدرجة الأولى من كرامة الإنسان.
ويأتي تحقيق الصحيفة بعد ازدياد انتشار ظاهرة بيع الأعضاء البشرية، إذ كثرت الإعلانات والطلبات عن أعضاء بشرية حتى في الطرق ضمن مدينة دمشق، بل أصبح البائع ذاته يعلن أيضاً وجود رغبة لديه في بيع أعضائه مع امتلاكه تحليل أنسجة. ولم تقتصر هذه الإعلانات على من يحتاج إلى كلية، أو قرنية، بل تعدّتها إلى إعلان البعض رغبتهم في بيع جزء من الكبد.