للسينما صوتٌ لكنْ لا أحد يسمع

28 اغسطس 2023
مارغو روبي وراين غوزلينغ و"باربي": عرضٌ مؤكّد في لبنان؟ (فكتور سيمانوفيتش/الأناضول)
+ الخط -

يزداد الوضع سوءاً. أكتفي بوضعٍ لبناني مُعاشٍ يومياً، مع أنّ العالم مُصاب بلعناتٍ أقوى من كلّ نووي وذكاءٍ اصطناعي، والأخير خرابٌ جديد كخراب النووي سابقاً. كلّ التقنيات الحديثة أمقتها. إلى الآن، أشعر بمسافةٍ معها، لكنّ الوظيفة وبعض اليوميات يفرضان تعاطياً دائماً معها. مشاهدة أعمالٍ تلفزيونية، يُعاد بثّها حالياً بعد أعوامٍ على انتهاء إنتاجها، تحرّض على نقاشٍ، بل على محاولة نقاشٍ، سيكون مُكرّراً للأسف، وفحواه أنّ السينما/التلفزيون يسبقان الحياة/الواقع.

هذا رأيّ يُراد له أنْ يجعل السينما، تحديداً، سبّاقةً في كشف المُقبل، وهذا حاصلٌ مراراً، لكنّه غير مُدّع نبوءة، كما يظنّ البعض. لكنْ، أهناك أفلامٌ لبنانية سبّاقةٌ في كشف خرابٍ مُقبل، في الاقتصاد والاجتماع والعلاقات والحياة اليومية؟ أفلامٌ عدّة تنبش في ماضٍ، بعيد وقريب، وإنْ تروي شيئاً من المُقبل، فبخجل ومواربة، وهذا أجمل سينمائياً وأفضل. أمّا الحاصل في البلد، أقلّه منذ تفشّي الانهيار الاقتصادي/الاجتماعي تزامناً مع، أو عشية/غداة "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019)، أقوى وأخطر من أنْ تستوعبه سينما محلية، متمكّنةٌ، في مراحل انهيارات لبنانية مختلفة، منذ النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (13 أكتوبر/تشرين الأول 1990) تحديداً، من ابتكار الأجمل والأعمق والأهمّ، في نَبْش الماضي، وقراءة الآنيّ، ومحاولة استشراف مُقبلٍ من الأيام.

الدليل كامنٌ في أنّ أفلاماً عدّة تستفزّ نظاماً حاكماً، وتُثير غضب قوى أمر واقع، وتستنفر مرجعيات دينية/طائفية/مذهبية، فتُمنع من عروضٍ محلية، تجارية وغير تجارية.

يزداد الوضع اللبناني سوءاً. يحتاج الناقد إلى مادة لكتابةٍ أو تعليق، ومسائل كثيرة، سينمائية وغير سينمائية، والأخيرة مرتبطة بيوميات عيشٍ في هذا البلد، تستحق تأمّلاً بها، من دون تحريضٍ على الكتابة عنها أحياناً، لانكسار وخيبة يعتملان في ذاتٍ، فالخراب عظيم في الجهات كلّها. الحاصل كثيرٌ، والارتباك فاعلٌ، والقهر طاغ، والملل وفير. الملل نفسه خطر أيضاً، لأنّ فيه دافعاً إلى موتٍ من دون انتحار؛ والفيسبوك، كأقرانه في "وسائل تواصل اجتماعي" (البعض يُسمّيها "وسائل تواصل غير اجتماعي"، وهذا أصدق وأكثر واقعيةً وحقيقة)، مليئةٌ بـ"مُفيدٍ" في المهنة، لكنّه مُدمِّرٌ لما فيه من انحدار وتعنّت وتعالٍ وشوفينية وشعبوية، وبؤسِ تفكيرٍ وقول، وادّعاءاتٍ مقيتة، وتشاوفٍ بغيض، وأحكامٍ قاتلة في مسائل، غير صحيحٍ أنّها قاتلة.

تحتاج المقالة إلى مادة سينمائية، والحاصل في البلد، بكلّ ما فيه من مستوياتٍ وجوانب وتفاصيل وعيش وعلاقات، يُثري السينما، والكتابة فيها وعنها، بألف مادة ومادة، لانعدام الحدّ الفاصل بين المتناقضات كلّها. فهل المُعاش واقعٌ أم متخيّل؟ حقيقيّ أمّ وَهَم؟ فعلٌ مُقاوم، جدّياً، من أجل حقّ في التعبير وإعلان رأي وإحساس، أم خطابية عشوائية تدّعي تعبيراً ورأياً وإحساساً؟ أيكون هذا العالم الافتراضي واقعاً، بما فيه من شقاءٍ وفراغٍ وقسوةٍ وانحدار إلى قعرٍ لا قعر له، أم أكثر واقعية من واقع حياةٍ، يُفترض بها أنْ تكون طبيعية، لكنّ الغلبة لأناسٍ يستسلمون لموت وصمت وانسحاب، ويخضعون لطاغيةٍ يحكم باسم دين/طائفة/مذهب، وباسم قبيلة/عشيرة، لإشهار "ثقافته" القاتلةِ كلَّ خارج عنه، ومتمرّد عليه، ورافضٍ إياه؟

الأسوأ، أنّ كتابةً كهذه غير مُفيدة وغير صالحة وغير مؤثّرة. فالقراءة منعدمة، وإنْ تحصل قراءةٌ لكتاباتٍ، فيها قولٌ يكشف ويفضح ويُحلّل ويُعبّر، تبقى (القراءة) أعجز من أنْ تُترجَم إلى فعلٍ، فالفعل يحتاج إلى "عباقرة" في الركون إلى شارعٍ يحثّ، ببراعةٍ، على مواجهة قتلة وفاسدين، ومواجهة جهلٍ وتخلّفٍ يتحوّلان، بحماية قتلة وفاسدين، إلى قضاة أخلاق لا حماة حقّ.

كتّاب/كاتبات رأي ونقدٍ يُركَن إليهم/إليهنّ عاجزون عن إحداثِ فرقٍ في مواجهة خرابٍ، يتمثّل بنظام حاكم، سيكون أقوى نظامٍ حاكمٍ في العالم، من دون ركائز أساسية لدولة/أمة/وطن. العجز متنوّع، فالغالبية الساحقة من الناس غير قارئة وغير مهتمّة وغير معنيّة، لأنّ لها تدابيرَ عيش تساهم في إفراغ البلد من مُقوّمات أنْ يكون دولة/أمة/وطناً. في حالةٍ كهذه، ينفضّ كثيرون/كثيرات عن سينما لبنانية، تخترق الممنوع، وتفضح المخبّأ، وتُعرّي متحكّماً ببلدٍ وناسه، رغم أنّ أفلاماً (ليست كلّها) كهذه تُمنع، فالمنع أنجع وسيلةٍ لمزيدٍ من قمعٍ يفرض نسياناً، والناس مستسلمون، لأنّ النسيان أسهل، وعدم المواجهة أسهل، ولكثيرين/كثيرات مصادر عيشٍ تكفي لاستمرارٍ مقبول، لكنّه استمرارٌ مُصابٌ بألف لعنةٍ وموتٍ، واستمرارٌ كهذا غير صالحٍ لإيجاد دولة/أمة/وطن، وكثيرون/كثيرات يُفضّلون سهراً وحفلاتٍ، وديوناً أحياناً، على اشتغالٍ مُفيدٍ لإيجاد دولة/أمة/وطن.

 

 

غالبية أولئك الكثيرين/الكثيرات غير مُكترثةٍ بسينما محلية، تنبش في ذاكرةٍ تحتاج إلى معاينةٍ وقراءة وتحليل وتفكيك وكشف؛ وغير راغبةٍ في مواجهة "مرآة" تصنعها تلك السينما، لأنّهم/أنهنّ رافضين قبول رؤية هذا الكمّ الهائل من عفن يعتمل في نفوسٍ وأرواح. هؤلاء يسعون إلى أفلامٍ لبنانية مُملّة، وعربية أكثر مللاً، وأجنبية تُسلّي ولا تُفيد. وحين يُعرض فيلمٌ لبناني، مستلّة حكاياته وأجواؤه ومناخه وأحاسيسه من وقائع وحقائق، تنفضّ الغالبية، سريعاً، عنه، والبعض يشتمه ويلعنه، فبالنسبة إلى هذا البعض "يلّي فات مات"، و"عفا الله عمّا مضى" و"ما بدنا نتذكّر (لا نريد أنْ نتذكّر)"، وهذه جمل/"قناعات" أكثر فتكاً وقتلاً من قنبلة روبرت أوبنهايمر نفسه.

سينمائياً، يتدخّل كثيرون/كثيرات في أحوال وأفلامٍ، من دون متابعة أو مشاهدة. يشنّون حملاتٍ انطلاقاً من قرارات مصدرها حزب أو طائفة/مذهب أو جماعة/مليشيا. تجربة "باربي" (2023)، للأميركية غريتا غرويغ، مثلٌ أخير على ذلك. حملةٌ حزبية، مُنبثقة من ثقافة إلغاء وتغييب وتهديد، تريد منعاً، لكنّ لجنة رقابية تُجيز عرضه التجاري، المتوقّع أنْ يبدأ في 31 أغسطس/آب 2023. اللجنة تلك مؤلّفة من ممثلين عن "المديرية العامة للأمن العام" ووزارة الاقتصاد، وهذا مُثير لضحك ساخر، رغم أنّ لهذا التأليف إيجابية، متمثّلة بأنْ لا مثقفين/مثقفات فيها، فرقابة غالبية أولئك أشدّ هولاً وأعنف موقفاً من مرجعيات أمنية ودينية ومالية، تدّعي "حقّاً" لها في تحديد ما يُشاهَد ويُقرأ ويُسمع، وما يُمنع من ذلك.

هذا جزءٌ بسيطٌ من حالةٍ تُنذر بالأسوأ والأخطر. ذلك أنّ شعباً بكامله، يُلغى وجوده ويُغيَّب أفراده وجماعاته بأشكالٍ مختلفة، يحفر بصمته وخنوعه قبراً جماعياً يتّسع للكلّ.

المساهمون