في الدورة الـ76 لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، المُقامة بين 28 أغسطس/ آب و7 سبتمبر/ أيلول 2019، افتُتحت مسابقة "آفاق" بفيلم "دماء البجعة"، للألمانية كاترين غِيبِه. للقسم هذا أهمية كبيرة، إذْ يأتي في المرتبة الثانية بعد المسابقة الرسمية، ويهتمّ بالأفلام الأولى أو الثانية. "دماء البجعة"، ثاني روائي طويل لغِيبِه (1983)، بعد 3 أفلام قصيرة.
يصعب تصوّر أنّ "دماء البجعة" لمخرجة شابّة، تقدم عملها الثاني. إخراجيًا، جيّد للغاية. عناصره كلّها محترفة ومُعتَنى بها جدًا. سرد الأحداث يمضي من دون إبطاء أو إطالة. التشويق والإثارة حاضِران دائمًا. الأداء جيد جدًا. مكان التصوير مزرعة في الريف الألماني باهرة الجمال، خصوصًا في اللقطات الليلية. الألماني موريتز شولتَيس صانع تصوير وتدرّجات لونية للمَشَاهد على قدر إبداعي ملحوظ، منذ اللقطة الأولى. فعليًا، "دماء البجعة" متكامل في نوعه. لكنّ، إلى أي نوع ينتمي؟
يتأرجح الفيلم بين الدراما النفسية والغموض، الذي يبلغ حدّ الرعب. معادلة نجحت كاترين غِيبِه في الحفاظ عليها إلى حدّ بعيد طول الوقت، وإنْ شابها بعض اللبس في الختام. فيبكا (نينا هوس)، امرأة وحيدة، تملك مزرعة في جنوب ألمانيا لتدريب الخيول وترويضها. تستعين بها الشرطة الألمانية لتدريب خيولها على أعمال مكافحة الشغب، وعلى غيرها من الأمور العنيفة. هناك استمتاع في مشاهدة فيبكا أثناء تدريبها الخيول، والاختبارات التي تجريها لتعتاد الخيول على سماع إطلاق الرصاص وأصوات الألعاب النارية، وغيرها. يُلاحَظ مدى صبرها وخبرتها في الترويض، والتعامل الذكي مع المواقف المختلفة.
لفيبكا طفلة بلغاريّة متبناة، تدعى نيكولينا (أديليا كونستانس أوكلبو)، تبلغ 9 أعوام، تحبّ فيبكا كثيرًا، وتتأقلم مع الأجواء والمكان، وتبرع في دراستها. تقرّر فيبكا تبنّي طفلة أخرى، فتأخذ نيكولينا معها إلى دار الأيتام في بلغاريا، وتختار الطفلة الوديعة رايا (كاترينا ليبوفسكا)، ذات الأعوام الـ5. لكن رايا تقلب المنزل وحياة فيبكا ونيكولينا رأسًا على عقب، بقسوتها وتمرّدها وعدوانيّتها وجنونها. طبيًا، الطفلة مريضة، لكن مرضها عسير العلاج، يحتاج إلى فترة طويلة جدًا. تقرّر نيكولينا علاجها نفسيًا، أو ترويضها كما تفعل مع الخيول. فهل تنجح؟ السؤال الوحيد، المطروح بإلحاح منذ ظهور رايا، هو: لماذا التمسّك العنيد بتلك الطفلة المضطربة؟ لا إجابة شافية.
إلى ذلك، افتُتح برنامج "العروض التجريبية" بـ"عرائس الخوف" للتونسي نوري بوزيد. هذا القسم جديد، أضيف إلى المهرجان للمرّة الأولى هذا العام، ويضمّ أفلامًا مختلفة في أنواعها ورؤيتها ومدّة كل واحد منها. لكن، ما هو سبب اختيار الأفلام في هذا القسم، وهي 3 روائيات و3 وثائقيات، لا تتنافس على جوائز؟ قسمٌ موصوف بكونه تجريبيًا، مغايرًا للأقسام والبرامج الأخرى، بينما هناك أفلام (معروضة لغاية الآن) ليست تجريبية، بل إنّها لا تحمل قدرًا ولو بسيطًا من التجديد.
في "عرائس الخوف" (العنوان العربي للفيلم)، يعود نوري بوزيد إلى مواضيعه المعروفة، التي تؤرقة منذ أعوام، والتي تناولها في أفلام سابقة، ويعود إليها بين حين وآخر في أفلام أخرى: التشدّد الديني والعلاقات المحافظة وتطوّر المجتمع التونسي، خصوصًا بعد "الربيع العربي" و"ثورة الياسمين" التونسية. لذا، لم يكن غريبًا أن يختار عام 2013 زمنًا لأحداث فيلمه الأخير هذا، وتناوله قضية "جهاد النكاح"، وهروب أو خطف الفتيات، وبيعهنّ إلى تنظيم "داعش".
في "عرائس الخوف"، يحاول بوزيد، بمصداقية شديدة، معالجة الموضوع على نحو نفسيّ واجتماعي، عبر حكاية شابّتين تهربان من أسر "داعش" لهما، وعودتهما إلى تونس. المشكلة كامنةٌ في أن الفرار من الأسر، رغم استحالته، أهون من العودة إلى مجتمع معاد، بدءًا من ربّ العائلة، وانتهاء بالدولة، التي ربما تسجنهما بتهمة الانتماء إلى تنظيم إرهابي محظور، إنْ لم يُثْبَت العكس.
لأسبابٍ كثيرة، لم تفلح معظم المعالجات، التي قدّمتها السينما الروائية العربية أو الغربية، لقضية الإرهاب والتطرّف والحرب السورية و"داعش"، وغيرها. هذا ينسحب على "عرائس الخوف" أيضًا، رغم مصداقية نوري بوزيد، ومحاولته مقاربة الموضوع نفسيّا لا سياسيا، ومن دون الغرق في قضايا شائكة أو إشكالية. المشكلة أنّ الدراما المقدَّمة لم تكن قوية أبدًا. حتى الشخصيات، الضحايا والمتعاطفون، غير مُقنعة كثيرًا. بالإضافة إلى ذلك، هناك طريقة تصوير مزعجة بعض الشيء، تعتمد كثيرًا على كاميرا مقرّبة من الوجوه؛ والإكثار من الـ"فلاش باك"، لتبيان عمليات الاغتصاب والتعذيب، مع أنّ الصورة باتت واضحة، والمَشَاهد المكرّرة لا تضيف شيئًا.
إنّهما زينة (نور الهاجري) ودجو (جومين الأمام). الأولى متمرّدة في مراهقتها، ومُحبّة للحرية، وضد أي قيد. أحبّت شابًا، أقنعها بالسفر. هناك، باعها لأحد أمراء "داعش" وقبض الثمن، فتلك طريقته في كسب العيش. زينة لا تعرف اسمه بالكامل. اعتقدت أنّه قُتل في الحرب. عندما تعلم بوجوده، تذهب إليه فيُنكرها، ما يُفقدها ثقتها بكلّ شيء. تخشى معرفة "داعش" بعودتها، أو معرفة الأهل والجيران، وطبعًا تخشى السجن. اختُطفت منها ابنتها بعد شهرين على ولادتها. لم تعد تتوقّع عودة ابنتها، ولم تعد تثق بالرجال والأهل والمجتمع والقانون، بل تخشى الجميع، حتى محاميتها. لكنها، تدريجيًا، تثق بإدريس (مهدي الهاجري)، الشاب المثليّ، الممنوع من الدراسة. تدافع عنه محاميتها نادية (عفاف بن محمود). تطمئن إليه زينة، أكثر من والديها.
دجو صحافية سافرت لتغطية الأحداث، لكنها وقعت في الأسر. هناك، تعرّفت على زينة، التي ساعدتها على الفرار إلى لبنان، ومنه إلى تونس. مع مسار الفيلم، تكشف زينة كم أنّها أكثر تماسكًا واتزانًا من دجو، الحبلى، التي تبدو أنها لا تزال تحت تأثير الصدمة النفسية. على الجدران أو الأوراق المتوفرة، تُدَوِّن دجو، بهستيرية، وقائع ما حدث، تُصدرها لاحقّا في كتاب "الاغتصاب الحلال". في النهاية، لا تتحمّل نفسيّتها ولا اتزانها العقلي الاستمرار مُختبئةً في منزل والدة زينة، فتقرر إنهاء الأمر على طريقتها، بينما تركض زينة، في نهاية الفيلم، فرارًا من واقع مظلم، باتجاه مستقبل مجهول.