"لا أرض أخرى": صرخة فلسطينية صادقة وقاسية

15 يوليو 2024
"لا أرض أخرى": خراب تصنعه إسرائيل (الملف الصحافي)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **الفيلم "لا أرض أخرى" يوثق يوميات المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، ويُظهر محاولات إسرائيلية لتحويل "مسافر يطا" إلى مركز تدريب عسكري، مما يعني إزالة القرى الفلسطينية بالكامل.**
- **التوثيق البصري يمتد على أعوامٍ متتالية، ويُبرز محاولات إسرائيلية لمحو الهوية الفلسطينية، ويُظهر كفاح الفلسطينيين المستمر ضد الاحتلال ووحشية التعامل الإسرائيلي.**
- **رغم استخدام وسائل تصوير عادية، نال الفيلم جائزة أفضل فيلم وثائقي في "مهرجان برلين السينمائي"، مما أثار غضب إسرائيل الرسمية واللوبي اليهودي الصهيوني في ألمانيا.**

 

للعنوان قولٌ يعكس واقعاً، وبوحٌ يُعبِّر عن غضبٍ وانكسار وخيبة، رغم أنّ في يوميات عيشٍ مقاومةً سليمة، تفشل في تحقيق المُراد منها، لأنّ العدو مُسلّح ومجرم، إنْ يكن جندياً في جيش الاحتلال الإسرائيلي، أو مدنياً يُقيم في مستوطنة، ومدنيو المستوطنات أعنف من جنود الاحتلال، غالباً.

"لا أرض أخرى" تعبيرٌ أيضاً عن حقّ فلسطيني غير مُتنازَل عنه إطلاقاً. صرخةٌ مدوّية، وإنْ بسلاسة وهدوء ظاهِرَين، تؤكّد أنّ الفرد الفلسطيني غير متوقّف عن دفاعٍ له عن أرضٍ مُلكٍ له، والأرضُ جغرافيا وتاريخ وبيئة واجتماع ويوميات عيش وعلاقات. والعنوان فيلمٌ (2024) للفلسطيني باسل عدرا والإسرائيلي يوفال أبراهام، بالتعاون مع الفلسطيني حمدان بلال والإسرائيلية راحِل تسور، الوحيدة بينهم المتخصّصة بالسينما، إخراجاً وتصويراً وتوليفاً، والأولان صحافيان ناشطان، وبلال ناشطٌ في مجال حقوق الإنسان.

النواة الأساسية للفيلم توثيقٌ مُصوّر في أعوامٍ متتالية، تشهد مواجهة فلسطينية شبه يومية مع الاحتلال الإسرائيلي، الذي يجهد في تحويل "مسافر يطا" (19 قرية فلسطينية صغيرة في محافظة الخليل ـ جنوبي الضفة الغربية) إلى مركز تدريب عسكري، بأمرٍ من قضاء إسرائيلي. المركز، المستَنِد إلى أمرٍ قضائي إسرائيلي، يعني إزالة القرى كلّياً، في الجغرافيا والاجتماع والناس، وفي مسائل أخرى أيضاً.

أعوام التوثيق البصري تلك سابقةٌ على "7 أكتوبر" (2023). لكنّ التوثيق نفسه يبدو راهناً، إنْ يُقرأ التاريخ الفلسطيني في سياق متكامل، يروي في جانبٍ منه محاولات إسرائيلية دائمة لإبادة شعبٍ، وإزالة قرى وبلدات، وتزوير تاريخ، وسرقةِ ثقافةٍ وتراث. أعوامٌ من التوثيق تُلخِّص بعض التاريخ الفلسطيني الراهن، وتفضح بعض التاريخ الإسرائيلي الراهن أيضاً، والتاريخ الأول حاضرٌ والإثباتات متنوّعة، والتاريخ الثاني مفضوحٌ بأكاذيبه وتزويره وافترائه. لذا، مع أنّ الجانب السينمائي فيه غير فنّي وغير مُبهر باشتغال مطلوب، يقول "لا أرض أخرى" إنّ كفاحَ الفلسطينيّ، فرداً وجماعةً، دائمٌ، طالما أنّ إسرائيل تحتلّ وتُبيد، دائماً.

السينما في "لا أرض أخرى" عادية للغاية، ومع هذا ينال جائزة أفضل فيلم وثائقي في "بانوراما" الدورة الـ 74 (15 ـ 25 فبراير/ شباط 2024) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، وجائزة الجمهور. هاتان الجائزتان، بعد مضمونه التوثيقيّ، كافيتان لإثارة غضب إسرائيل الرسمية، وغضب اللوبي اليهودي الصهيوني المتسلّط على ألمانيا، ما يدفع مسؤولين رسميين فيها إلى إعلان موقفٍ رافض للجائزتين، ومواجِهٍ إياهما (ومواجهة المهرجان أيضاً، وتقريع إدارته ولجنة تحكيمه)، خصوصاً أنّ الإسرائيلي يوفال أبراهام غير رحيمٍ، في تصريحٍ له بعد نيل الجائزتين، مع "دولته"، التي يقول فيها واقعاً: إنّها تمنع عن الفلسطيني حقّه في عيشٍ كريم في أرضه وبلده.

 

موقف
التحديثات الحية

 

والتوثيق، الذي يعتمد وسائل عادية في التصوير، يُصبح شهادة بصرية لا تصنع سينما، بل تُصوّر واقعاً حياتياً، ولا تخترع خيالاً، فالواقع حيٌّ وطبيعيّ، وأفعال المحتلّ الإسرائيلي أسوأ من أنْ يكون خيالاً لشدّة واقعيّته. عامٌ تلو آخر، يُصوّر باسل عدرا ما يفعله إسرائيليون، جنوداً ومدنيي مستوطنات، بأهل "مسافر يطا"، وبعض أهلها أهل له، ووالده "مواظبٌ" شبه دائم على سجون المحتلّ. أمّا يوفال أبراهام، فصحافي يريد فهم الحاصل ميدانياً، فيكون عيناً أخرى تُضيف مشاهداتُها تأكيداً لوحشية إسرائيلية في محو وإبادة وتغييب، لن يكون الردّ على "7 أكتوبر" (طوفان الأقصى) أوّل تمثيلٍ لها ولا آخرها، مع أنّ في الردّ الإسرائيلي هذا وحشية غير مسبوقة.

"لا أرض أخرى"، المعروض في "آفاق" الدورة الـ 58 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/ تموز 2024) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، وثيقة بصرية تؤرّخ واقعاً وتفاصيل في أعوامٍ متتالية. في مضمونها (الوثيقة البصرية) بعض انتقادٍ لمسائل يعانيها فلسطينيون وفلسطينيات: تصوير حالة ووضع بعد "زيارةٍ" لأيام قليلة، لكتابة ـ تصوير تقارير صحافية ـ إعلامية فقط لا غير، من دون أي فائدة عملية لهم ولهنّ. وأيضاً، وإنْ مواربة، إظهار مأزق الإسرائيلي، الراغب في معاينة وقائع وحقائق، عبر "سخرية" مبطّنة من "حماسته" في دفاعه عن حقّ فلسطيني، إذْ يحاول باسل عدرا تخفيف تلك الحماسة بقول منطقي ـ واقعي: لا يُمكن تحرير أرضٍ وبلدٍ بعشرة أيام. مع هذا، يُصرّ يوفال أبراهام على مواكبة الحاصل، للكتابة عنه، فإذا به يُصبح أحد صانعي "لا أرض أخرى"، مع أنّ في العنوان ما يشي بأنّ إسرائيلياً، يهودياً و/أو صهيونياً، "مقتنعٌ"، هو أيضاً، بأنْ "لا أرض أخرى" له.

هذا نزاعٌ غير مكتفٍ بعسكر ومستوطنات وقيادات تزوّر حقّاً فلسطينياً، وتحرقه وتجهد في إبادته. لكنّ "لا أرض أخرى" يريد كشفاً آخر لوحشية إسرائيلية في التعامل مع الفلسطيني ـ الفلسطينية، من دون اهتمامٍ بأي جانب من الجوانب السينمائية. فالتصوير مُتاح، وإنْ بأدوات غير سينمائية، وغزارة الأحداث وغليانها غير محتاجة إلى سينما لتقول وقائع وحقائق، فالتقاط هذه الوقائع والحقائق بواقعيّتها وحقيقتها، كافٍ وحقيقي وصادق ومباشر.

المساهمون