يهدد كل حدث استثنائي أسلوب حياتنا، فظهور الهواتف النقالة التي تعمل على اللمس وانتشارها غيّرا من شكل أصابع الكثيرين، ونعومة جلد الأنامل. الأمر ذاته مع الوباء الحاليّ، الجلوس وراء الشاشات فترة طويلة، يهدد ظهورنا واستقامتها، وقوّة نظرنا. هذه الآثار نتيجة محاولة تكيفنا مع الطارئ، والجديد، في سبيل الاستمرار والنجاة، بل ويمكن القول إنه في حال استمرار الجائحة، ستحدودب ظهور الكثيرين، وتتقوس رقابهم، وسيحتاج كثيرون إلى نظارات وعدسات بسبب التحديق المستمر في الشاشة.
الكثير من المقالات وآراء المختصين تشير إلى الآلام التي يختبرها الكثيرون بسبب ما سبق، خصوصاً إثر وضعيات الجلوس الطويلة، والشكل الخاطئ الذي نتموضع فيه على الكرسي أو الكنبة. فالكسل، بوصفه أسلوب الوقاية الأشد من الوباء، حوّل أجسادنا في المنازل إلى ما يشبه الأثاث، حركتها قليلة ومتصلبة، وكأننا أمام خطرين علينا الاختيار بينهما، الوباء أو تشويه أجسادنا، بل وتصل بعض النصائح إلى حد التأكيد على ضرورة الحركة وتغيير الوضعية كل ثلاثين دقيقة.
ما سبق يدفعنا إلى إعادة النظر في الأثاث من حولنا، ووظائفه، وطبيعة الدور الذي يلعبه في تقويمنا واحتوائنا، خصوصاً أن المريح لا يعني الصحيّ، ذاك الذي يتطلب جهداً وألماً في بعض الأحيان، كمن يجلسون على كرة أثناء العمل، أو من يعملون واقفين.
نتحدث هنا فقط عن الأعمال التي تنجز من وراء الشاشة ومن المنزل، والتي بسببها ازدادت الآلام الجسديّة، ولم يعد يصلح الجلوس التقليدي، فساعات العمل الطويلة أمام الشاشة تهدد العضلات المسؤولة عن انتصاب الظهر وحفاظه على شكله، بل إن البعض لجأ إلى الرياضات التفاعلية بين الشاشة والفرد، وذلك لكسر إيقاع الجلوس وتحويل الرياضة التي قد تكون مملة إلى شكل من أشكال اللعب داخل المنزل.
نقرأ في مجلة "ذا نيويوركر" مقالاً بعنوان "هل يكسر الوباء ظهورنا؟"، تناقش فيه الكاتبة أثر الجلوس وراء الشاشة على أشكالنا، بل وتنصح فيه بأنواع متعددة من مقومات الظهر تلك التي يمكن ارتداؤها في المنزل أثناء العمل. الأهم، لا يبدو أن هذه المشكلة تنال الاهتمام الكافي، خصوصاً أمام الآثار النفسية للحجر الصحي. أما الأثر الجسدي، فما زال ضمن الكلام العام حول "ضرورة ممارسة الرياضة".. تلك النصيحة التي يتجاهلها الكثيرون، بوصف الرياضة تنتمي إلى وقت الفراغ لا إلى "الصحة".
من الممكن أن يصبح شكل الإنسان في المستقبل مخيفاً، مختلفاً عن ذاك الذي نراه في الخيال العلمي، قد يكون قصيراً، محدودباً، ذا نظارات سميكة وأصابع ثخينة، يمشي ببطء وغير قادر على الانحناء، بدين، خال من السمرة بسبب عدم التعرض للشمس، الشكل الذي يلصق عادة بمهووسي الحواسيب أو الـtrolls، كما نراهم في إحدى حلقات "ساوث بارك". وما يميز هؤلاء، الذين يختبرون الحياة وراء الشاشة، هو تلاشي المهارات الاجتماعيّة والفظاظة، خصوصاً أن لا اكتظاظ ولا تجمهر نتمايز فيه عن الآخرين، ونختبر فيه أدواتنا التواصليّة.
كل هذه الفرضيات التي نسوقها ترتبط بسهولة الطاعة والانصياع للشكل القائم، والتي نختبرها بأجسادنا وتظهر ملامحها واضحة في تكويننا، بل يمكن تقسيم الناس الآن إلى العاديين، المحبوسين في منازلهم ممن يتلقون من وراء الشاشات، ونجوم وسائل التواصل الاجتماعي، الذين يعيشون في عالم آخر مختلف عن ذاك الذي نحن فيه.. أجساد متقنة وصورة منمّقة، تعمق الفجوة بينهم وبيننا. من المفترض أننا نلاحقهم، فآلامنا الجسدية لا تظهر واضحة عليهم، بل ولا تعنيهم.
هذا ما تلمسناه في فيلم fake famous الصادر مؤخراً، والذي يكشف الهوة العميقة بين ما نراه على الشاشة وبين الحقيقة تلك التي نختبرها نحن المشاهدين المختفين وراء شاشاتنا.