كيرالا الدولي 2021: تمهيدٌ لعتمة مُقبلة

21 فبراير 2021
تلعب رنا سغروفا دور البطولة في فيلم "بين الموتى" (إليزابيتّا فيلّا/ غيتي)
+ الخط -

لم تعدْ السينما ملجأ. إنّها ليست لأجل هذا، في أيّ حال، لكنّها تضع في أجواء، وتدفع إلى تأمّلات تُنسي، لوهلة، المحيط. في أفلامٍ كتلك، المعروضة في المسابقة الرسمية لـ"مهرجان كيرالا الدولي في جنوب الهند الـ25" (11 ـ 26 فبراير/ شباط 2021)، لا بُدّ من مواجهة هذا العالم القاتم، الذي تدور حوله معظم الأفلام المشاركة.

14 فيلماً، من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، مُنجزة عام 2019، كأنّها تُمهّد لعتمةٍ مقبلة، بينما أفلام عام 2020 غارقة فيها. الأكثر مفاجأة أفلام أذربيجان، لا لكونها آتية من بلدٍ لا يُسمع عن سينماه الكثير فحسب، بل لطزاجتها ونضجها، ولوحولٍ ينغمس فيها أبطالها. الطين في فيلمين بطلٌ، والمكان ـ بتراميه البائس في الخارج، وبضيقه وأضوائه المعتمة في الداخل ـ كأنّه مُكمّلٌ لشخصياتٍ، في حياتها الشاقة، ومآلاتها الخائبة، ووقوفها على عتبةٍ بين الموت والحياة.

في "بين الموتى" (2020)، لهلال بيداروف (المسابقة الرسمية للدورة الـ77 لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، المنعقدة بين 2 و12 سبتمبر/ أيلول 2020)، هناك إنسانية في بحثها الأساسي عن المعنى، وعن الذات والحبّ والحياة في طريقٍ غامض، ورحلة غريبة في يوم واحد للبطل. داود، المتذمّر من أمّ مُحبّة تدعو له بالخير، هو الخيّر رغم شرّه الظاهر، يغادرها، وفي كلّ مرور له بمكانٍ، هناك موتٌ يتربّص بشخصية ما، تحيط بنساء مقهورات يسعين إلى التخلّص من قهرهن (زوج قامع، خطيب مفروض، إلخ). كلُّ موتٍ وكلُّ تحرّر يتسبّبان في ظهور ذكريات غير مرئية من وعيه. من حادثة إلى أخرى، هناك تحوّلات وإضافات لشخصية في إدراكها العالم، واكتشافات ربما أتت متأخّرة بعد دفع ثمن غال. 

فيلم "بيلاسوفار" يتناول 5 قصص عن هجر وبحث وخلاص 

كان الحبّ هنا، لكنّه لم يُرَ ولم يُحسّ به، وحين العودة إليه يكون الآوان قد فات. لغة بصرية عالية بين حلم وواقع، تحمل ضبابية رؤية وتشوّشاً في إدراك معنى وحدساً، قبل وصول البطل إلى الحقيقة. المخرج بحث عن طرق جديدة للتعبير، دفعته إلى هذه القيود المفروضة في بلده. هو اعترف بهذا. الأمكنة نفسها، مع قصّة تقود شخصية فيها إلى قصّة أخرى، في "بيلاسوفار" (2020)، لألفين أديغوزيل. المنطقة (بيلاسوفار)، المنسية في جنوب أذربيجان، تشهد 5 قصص عن هجرٍ وبحثٍ عن خلاصٍ من عيش بائس، وغوص في وحول، وشخصيات تخبّر عن رغباتها ومعاركها ويأسها وبحثها عن شيء ما. القصّة الأخيرة ـ بحثٌ عن قروشٍ قليلة، يستطيع مُصوّر فيديو بفضلها العودة إلى قريته، بعد فشل مشروع له ـ أقسى ما يمكن أنْ يُصيب إنساناً في رحلة هبوط نحو عجزٍ يبدو أنْ لا خلاص منه.

في مواجهة آلة الاستبداد، حين يتعلّق الأمر بالعواطف الإنسانية، أين تتركنا ثنائية الحبّ والمسؤولية الأخلاقية؟ هل هناك خيار حين يطلب الطغاة تنفيذ الأوامر اللاإنسانية؟ يتساءل الإيراني محمد رسول أف، في "لا يوجد شيطان" (2020). قصص عدّة ومحور واحد، عن أفراد في دولةٍ، يُكرّسُ القانون لحمايتها والحفاظ عليها، بدلاً من تنظيم العلاقة بين الناس والمجتمع، ليحوّل الحكّام الناس إلى مكوّنات لآلاتهم الاستبدادية. في الفيلم أقدار شخصيات تقاتل لتأكيد حريتها في رفض المفروض، حين تطلب السلطة من إنسانٍ عسكري مثلاً تنفيذ حكمٍ بإعدام مواطن مثله: ما الذي يدفع إنساناً إلى ارتكاب أو رفض فعل شنيع كهذا، بحقّ آخرين لا يعرف شيئاً عنهم؟ إلى أيّ مدى يتحمّل مسؤولية التنفيذ؟ هل لديه خيار؟ أسئلة مربكة عن الإعدام من وجهة نظر جلّادين وضحايا، في فيلمٍ يبرع في التعامل مع قضية حسّاسة، إنسانياً وسلطوياً.

مواطن رسول أف، الذي لم يعد مواطنه، حقّق "أسماء الزهور" (2020)، في بوليفيا. الإيراني الكندي بهمن طاووسي في فيلمٍ مدهش بصمته ودلالاته، عن تاريخٍ يخترعه أفراد، ويصدّقه أقوام. أين الحقيقة؟ أهي في هذا الوجه الصامت الحزين، الذي خطّته تجاعيد لا تُحصى، في يدٍ تحمل زهرتين، وفي أخرى إناء حساء، تقطع بهما مسافات يومياً لتقنع زائرين متلهفين بأنّها أطعمت غيفارا حساءه الأخير، وأنّه أهداها قصيدته الأخيرة "أسماء الزهور"، قبل الرحيل؟ جوليا، معلّمة أمضت شبابها وكهولتها، كعديدات غيرها، في وهم أنها حضّرت يوماً حساءً للرجل العظيم حين كان مسجوناً في غرفة صفّها. لكنّ المسؤولين، دائماً المسؤولين، رغبوا ـ في غمرة الاحتفالات بالذكرى الـ50 لغياب تشي غيفارا (1967) ـ في التأكّد من أساطير مرويّة عنه، وعن هذه الزهور وذاك الحساء وتلك المعلّمة، التي تتشارك تاريخها وذكرياتها مع العالم. روعة الفيلم في هذا الصمت البليغ، وهذا البناء الشاهق والسرد البطيء الساحر، وفي خلق شخصية لا يُمكن إلّا أنْ تصدّق أوهامها. فيلم أول، يحمل كثيراً من حزن إنسان وخيبته، لكنّه مليء بوعود عن مخرج شاب قادم بقوّة.

الذكريات أيضاً مع ريفيّ برازيلي أسود، يعزل نفسه شيئاً فشيئاً في بيتٍ مهجور في غابة، يستحضر فيه أفريقيا فتأتي إليه يومياً في قناع. في "بيت الذكريات" (2020)، للبرازيلي جُواو باولو ميراندا، يواجه كريستوفام الرجل الأسود مجتمعاً محافظاً متعصّباً، من سياسيين ورجال أعمال في برازيل منقسمة بين جنوبٍ أكثر ثراء وتماهياً مع أوروبا، وشمالٍ أفقر، يسكنه أحفاد العبيد الأفارقة والقبائل الأصلية. كريستوفام يعمل في مزرعة لإنتاج الحليب، ويجد نفسه في مواجهة مجتمع غير متسامح. صعوبة تواصله الاجتماعي تعزله في منزل قديم مهجور، يبدو أكثر حياةً من محيطه. هناك يتصل بماضيه البعيد، ويبحث عن أصوله، ويعثر على آثار أسلافه في الحيوانات والآلهة، فيتحوّل روحياً وجسدياً إلى "أسطورة" راعي بقر برازيلي، شخصية ثورية لرجل الشمال الأسود تشكّل أسطورة شعبية في البرازيل. لكنْ لينتهي أيضاً نهاية مأساوية تليق بالأساطير، في فيلمٍ يُدين ـ بأسلوب مبتكر وغريب ـ عالماً معاصراً قائماً على عنصرية واستغلال، ويبثّ مشاعر عميقة من قلق وعدم ارتياح.

لكنّ الذكريات تنمحي، بسبب ألزهايمر، في "مراقبة الطيور" (2019)، للمكسكية آندريا مارتينيز كراوزر. قسوةٌ لا تُحتمل، تحوّل إنساناً إلى حطامٍ في رحلة هبوطٍ مع هذا المرض. كاتبة مرموقة تريد تصوير نزولها اليومي إلى النسيان بنفسها. لكنْ، مع اشتداد المرض، لن تقدر على إنهاء الفيلم، فتستعين بصانعة أفلام، عاشت التجربة مع والدتها. تعمل المرأتان معاً على نسج قصيدة موجعة عن الحياة والموت، وعن هشاشة الإنسان، والعجز الذي لا يُنسي لحظات الحياة الحلوة، في فيلم محيّر بين الروائي والوثائقي، وتبقى صُوره ماثلة في الأذهان.

أفريقيا لن تقدّم فيلماً أقلّ إيلاماً، لكنّه مُحمّل بأملٍ. من "ليسوتو"، البلد الصغير في قلب جنوب أفريقيا، فيلم "إنّه ليس دفناً بل بعثاً" (2020)، حقّقه لوموهانغ جيريمياه موسى. مع سلاسل جبال عملاقة، تشكّل نحو ثلاثة أرباع تضاريسها، وتزوّدها بمياه وفيرة، يُعتَقد أنّها من بين أعلى مستويات الجودة في العالم. تصدّر "ليسوتو" سنوياً ما يُقدّر بـ780 مليون متر مكعب من المياه إلى جنوب أفريقيا، ويمثّل هذا أكبر مخطّط لنقل المياه في تلك القارة، في التاريخ. مع بناء مزيدٍ من الخزّانات، يُبْعَد آلاف القرويين في المرتفعات قسراً عن أراضيهم، ويُنقلون إلى بيئات معيشة حضرية، فيفقدون مواشيهم ومحاصيلهم وطريقة حياتهم، وأيضاً هويتهم الفردية والجماعية. هذا يدفع المخرج إلى تحقيق فيلمه عن ليسوتو الأرملة (80 عاما)، التي تستعدّ للموت، فتتّخذ الترتيبات لدفنها. لكنْ، عندما تكون قريتها مهدّدة مع إعادة التوطين القسري بسبب بناء خزان، تجد إرادة جديدة للعيش، تُشعل من خلالها روح التحدّي الجماعية في مجتمعها. لحظات درامية من حياتها في أجواء مكانية ساحرة، محمّلة بالأساطير وأرواح القدماء. 

المساهمون