يدفع توماس ستوكمان، بطل مسرحية "عدو الشعب" لهنري إبسن، ثمن مجاهرته بالحقيقة ويصل، نهاية المسرحية، إلى خلاصة مفادها أنه الرجل الأقوى في المدينة، لأنه يقف وحيداً في الواقع. فما يظهر بادئ الأمر مشكلةً متعلقة بالحمامات العامة، يحاول ستوكمان فضحها، يتطوّر ليمس حال المدينة وجهازي السلطة والإعلام فيها، وحتى سكانها، ويصبح بذلك بطل المسرحية هو العدو الأول.
لن ندخل في التفاصيل الدقيقة التي أنتجت هذا النص المسرحي حينها، وبالتحديد بطلها الذي لا يجد نصيراً له حين يفعل ما تمليه أخلاقياته وعلاقة ذلك بما كتبه إبسن قبلها، لأن ما يهمنا في هذه اللحظة بالذات هو ذاك الخلل، الذي قد يبدو صغيراً لوهلة، ثم يكشف بالتتابع العفن الذي ترقد عليه منظومة بأكملها. وفي الواقع، فإن هذه هي قصة Collective، الوثائقي الروماني، لمخرجه أليكسندر ناناو، والمرشح للفوز بجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم وثائقي لهذا العام.
ماذا يجري في الفيلم؟ ينطلق الوثائقي من حادثة نادي Collective الليلي والحريق الذي شب فيه عام 2015 أثناء حفلة موسيقية وأودى بحياة 27 شخصاً داخل النادي، و37 شخصاً في المشافي خلال الفترة التي تلت ذلك. حينها، أجبرت حكومة الحزب الاشتراكي الديمقراطي على الاستقالة بفعل الاحتجاجات وردود الفعل الساخطة، مفسحة المجال أمام حكومة تكنوقراطية مؤقتة تستلم زمام الأمور حتى الانتخابات القادمة. وفي هذا الظرف، يقرّر الصحافي كتالين تولونتان متابعة قضية أولئك الذين قضوا في المستشفيات بعد تعرضهم للحروق. ويجد نفسه، برفقة من معه في صحيفة "غازيتا سبورتوليرور"، أمام قضية تمس المنظومة السياسية في البلاد بأكملها.
فبعد اكتشاف عدم فعالية المعقمات التي تستعملها هذه المشافي، ويبلغ عددها أكثر من 200 مشفى، يتتبع الصحافيون الأدلة، وصولاً إلى الشركة التي تنتجها وتلاعبها بإجراءات السلامة، الأمر الذي لم يكن ليتم لولا تواطؤ مسؤولين حكوميين، إضافةً إلى شبهات تتعلق باختلاسها الأموال العامة أثناء توريد هذه المواد عديمة الفعالية. لا يتم ذلك بالسلاسة التي توحيها الفقرة السابقة، بل بعد مناوشات مع وزارة الصحة التي تجري هي الأخرى فحوصات على المواد، وتدافع بادئ الأمر عن فعاليتها محاربةً الصحافيين، قبل أن تعترف لاحقاً بعكس ذلك، ويستقيل وزير الصحة على أثر هذه الفضيحة.
ما يحدث بعد ذلك يزيد الأمور تعقيداً، إذ يُعثَر على مالك الشركة ــ الذي كان من المفترض أن يفحص أسماء المتواطئين معه ــ ميتاً بسبب تدهور سيارته، من دون تحديد ما إذا كان ذلك فعلاً مقصوداً أم حادثاً.
تتوالى التسريبات من داخل المشافي إلى تولونتان، فاضحةً سوء معاملة المرضى وتلك التي تجري على المستويين المالي والإداري، ويتزامن ذلك مع تعيين وزيرٍ شاب جديد للصحة، ذي نفسٍ إصلاحي مقارنةً بسابقيه.
بثبات علينا التفريق بين ما يجري في الفيلم، والفيلم نفسه. إذ يسهل على أحدنا الانجرار وراء قصة تولونتان، بمسارها المتعرج والمعقد، وتخصيص المدح لها وحدها
ينتقل الفيلم عندها ليرصد ما يقوم به الوزير ضمن محاولاتٍ لإنعاش هذا القطاع المتعفن، والعوامل السياسية المختلفة التي تؤثر على عمل القطاع الصحي بأكمله، ما يجعل محاولات الإنعاش هذه أسهل على الورق مما هي عليه في الواقع، على الأقل بالنسبة للوزير الشاب الذي يسأل نفسه والمحيطين به مرات عدة عن أصل هذه الدوامة الكبيرة، أو الطريقة لإنهائها مرةً واحدة وللأبد، من دون فائدة.
ينتهي الفيلم عند الانتخابات التي يفوز بها الحزب الديمقراطي الاشتراكي مرة أخرى، وتعيين أشخاصٍ عديمي الخبرة لإدارة المشافي مرة أخرى، ومشهدٍ يقف فيه أحد آباء الضحايا عند قبر ابنه ويقفل عائداً مع أسرته، بينما يقف صحافيو الجريدة حائرين إزاء تهديدات مبطنة تمس سلامتهم وسلامة أسرهم.
بهدوء، لكن بثبات علينا التفريق بين ما يجري في الفيلم، والفيلم نفسه. إذ يسهل على أحدنا الانجرار وراء قصة تولونتان، بمسارها المتعرج والمعقد، وتخصيص المدح لها وحدها (كما تفعل الحشود في إحدى المظاهرات عندما تهتف باسمه. عكس ما يجري مع ستوكمان بالطبع). حقيقةً، يعود الفضل لمخرج الفيلم أليكسندر ناناو بذلك. يعتبر مايكل مور أن الفيلم الوثائقي الناجح يجب أن يحمل طابعاً شخصياً بالنسبة لمن يصنعه. أنتجت القاعدة السابقة نماذج عديدة، طغى فيها المخرج على حساب موضوعه، وقد يكون آخرها Seaspiracy، الذي عرضته نتفليكس أخيراً، وتضيع خلاله المعلومات الحقيقية مع الآراء والأحكام الذاتية، مفرّطةً بقصة تستحق أن تعالج بهدوء وتروٍ. إلا أن ناناو، في فيلمه الأخير، يبتعد عن ذلك كلياً ويسخّر كل شيء ليسهل عرض القصة المعقدة.
في Collective، لا وجود للاستسهال أو القفزات المفاجئة أو الاستعراضات، بل التزام كامل بتتبع الوقائع والتزام مسافةٍ بينها وبين الصانع. يفرض ذلك إيقاعاً بطيئاً أحياناً، لكن هذا ما يجري فعلاً في غرف التحرير عندما تتعامل مع قضية بهذا الحجم، وتصبح مواجهة النهايات الميتة وتراكم الإحباط أجزاءً لا يمكن إغفالها من التجربة التي لا يحضر فيها المعلّق أو المقابلات مع الخبراء وغيرها من أدوات الفيلم الوثائقي التقليدي، وتستبدل بالمتابعة الدقيقة للصحافيين؛ محركي القصة الحقيقيين الذين سيعرف المشاهد أنهم أهل لهذه الثقة. ورغم هذا البرود والحياد، إن صحت تسميته كذلك، يتبنى الفيلم مواقف معينة عندما يجب عليه ذلك، ويبتدئ هذا منذ لحظة عرض شريط الفيديو الأخير من الحفلة في النادي الليلي. لا شك أن هذه المقاطع عادةً يتم التوقف عندها مطولاً قبل عرضها بسبب طبيعتها الحساسة، إلا أنها في الفيلم تبدو جزءًا من الحقيقة غير المفلترة التي يقف إلى جانبها الفيلم.
ويؤكد أنها حدثت، سواء بالأغنية الأخيرة التي كانت الفرقة تغنيها ضد الفساد، أو في لحظات الهلع والخوف التي تلت ذلك بعد اكتشاف الحريق. ينطبق الأمر ذاته على تفاصيل مزعجة، كالمقطع الذي يصور حال أحد مرضى الحروق، والديدان التي تغطي جروحه، لكون هذه القصة، بتشابكها الذي يبدو أحياناً أقرب إلى عملٍ مثل مسلسل The Wire، خلّفت آثاراً لا يمكن غض النظر عنها، وسيحتاج المشاهد غير الروماني تحديداً لفهمها ليحصل على صورة أدق عن حدثٍ، أو مجموعة أحداث، مرّت عليها نشرات الأخبار بلغته الأم بسرعة.
المستشفى بوصفه ساحة المعركة يقدم Collective قصة من شأنها لفت الانتباه والاهتمام من دون كثيرٍ من العناء أينما سُرِدَت، إلا أن الفيلم يكتسب أهمية مضاعفة اليوم في عالم كوفيد-19. إذ أثبتت جائحة فيروس كورونا المستجد هشاشة النظم الصحية في بلدانٍ عدة وباتت جودة هذا النظام واحداً من المعايير الرئيسية لتصنيف بلدٍ ما.
وإذا ما كان الحريق في نادي Collective قد باغت المنظومة الصحية في رومانيا، فإن شيئاً شبيهاً قد جرى على الساحة الدولية منذ العام الماضي، ويمكن لأثره أن يمتد إلى المستقبل مع معركة اللقاحات التي تدور اليوم.
لا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه الصحافة في الفيلم أيضاً. فمع كل التحديات التي تواجهها هذه الصناعة اليوم، سواء تلك التي فرضتها وسائل التواصل الاجتماعي أو تغير المشهد السياسي في السنوات الأخيرة، يصبح من النادر العثور على قصص تلعب فيها هذه الصناعة دور البطولة، لتأتي هذه القصة من بلدٍ مثل رومانيا، وتعيد بعض الاعتبار للمساهمات التي يمكن أن يقدمها هذا المجال اليوم والحاجة الفعلية إليها في الأماكن والبقع التي يحول بينها وبين الانهيار حادثٌ صغيرٌ واحد.