كتابات بلا مؤلفين على بقايا الجدران في قطاع غزة

19 مارس 2024
فنان الغرافيتي بلال خالد في رفح (عبد زقوت / الأناضول)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الرسومات على جدران الكهوف كانت وسيلة التواصل الأولى للإنسان، وهذا التقليد يستمر في غزة حيث يستخدم السكان الكتابة على جدران البيوت المدمرة للتعبير عن معاناتهم وتحديهم للاحتلال الإسرائيلي.
- الكتابات تعكس الإصرار على البقاء والتحدي، وتحمل رسائل تحدي وصمود، بما في ذلك الإشارة إلى الشهداء والضحايا، وتعبر عن الهوية الجماعية والتمسك بالأرض.
- تطرح الكتابات تساؤلات حول مصير المؤلف في ظل النزاعات، مشيرة إلى "غياب المؤلف" وتفتح المجال لتفسيرات متعددة للنصوص، مبرزة دور الكتابة في توثيق اللحظات التاريخية والشخصية.

في البدء، كان الإنسان يترك رسومات على الجدران في الكهوف. هكذا تواصله مع محيطه، وهكذا عرّف الآخرين الذين أتوا بعده بوجوده، أي بوجود حياة كانت هنا. اليوم، في قطاع غزة، وأمام عدوان الاحتلال الإسرائيلي، صار الغزّي يلجأ إلى كل الوسائل المتاحة للتواصل مع الآخرين وبعث الرسائل إلى العالم الذي يدعي الاستعداد في وسائل تواصله، وبرز من بين تلك الوسائل، الكتابة على بقايا جدران البيوت المهدّمة. كتابة يسودها توتر ترك أثره في بعض العبارات، مثل عدم استقامة خطوطها وانحراف كلماتها صعوداً ونزولاً.
تحمل بعض العبارات معنى ذاتياً، وعبارات لها معنى جمعي، وأخرى توحي بالتحدي. في حين يظهر السياسي سطحياً في أغلبها، وينبع جمال بعضها من شحنها الإيحائية التي تتضمنها.
تَحضُر هذه الكتابات ويغيب أصحابها، وأغلبها بلا إمضاءات. لا نعرف، هل من خطّها ما زال على قيد الحياة أم فارقها؟ إذن، هي نصوص وعبارات بلا مؤلفين. ولكن ماذا نفعل في حضرة نص ما غاب مؤلفه؟ وكيف نفهم معناه وما يريد إيصاله إلى الآخر، القريب والعدو؟ وهل هناك ما هو مسكوت عنه في تلك الكتابات؟
لقد ميّز الناقد الفرنسي، تزفيتان تودوروف، بين ثلاثة أنواع من القراءات، هي باختصار، القراءة الإسقاطية التي تتعامل مع النص على أنه وثيقة تاريخية واجتماعية شاهدة على قضية ما، والقراءة التفسيرية التي تشرح معاني الكلمات ومرادها، والقراءة الشاعرية التي تبحث في جماليات المكتوب وصور بلاغته.
تقول إحدى العبارات: "نحن أصحاب الأرض ولن نرحل". إنها توثيق فردي لحالة جماعية، فالفرد هنا ينطق باسم الجماعة عبر الضمير "نحن"، ويعبر من خلالها عن حالة ثبات الجماعة وعن أحقيتها في الدفاع عن أرضها المحتلة، وذلك بعد كل ما كابدته من عناء القصف والتشريد وانتهاكات جنود الاحتلال واستفزازاتهم التي لا تنتهي. كما ذيلت تلك العبارة بتاريخ هو (7-10) مرفقاً بمقولة "سيبقى يرعبكم"، كأنها رسالة تحدٍّ من "أصحاب الأرض" إلى الاحتلال في المرتبة الأولى، وإلى كل من يقرأ لغة عربية في المرتبة الثانية، لأنها كتبت بالعربية. ربما هي إشارة إلى كل من ينطق اللغة العربية وأدان عملية "طوفان الأقصى".
كثيرة هي الكتابات على الجدران التي تهتم بالتوثيق في قطاع غزة، ولا سيما أن أحياءً كاملة تحولت إلى أنقاض وتعذر إنقاذ السكان من تحتها، فصارت بقايا الجدران المهدمة شواهد على الشهداء تحتها، وكأن ما كتبه جار أو عابر سبيل حاول الإنقاذ يصف تلك المشهدية؛ إذ كتب: "أمه وأولاده وزوجته هنا تحت الأنقاض". في حين كُتبت عبارة "جود تحت الأنقاض" باللون الأحمر على جدران منزلها الذي تعرض لقصف إسرائيلي في أكتوبر الماضي.
ليست كل الكتابات يمكن قراءتها وتفسيرها على أنها توثيقية، بل يوجد منها ما هو تحذيري، مثل التي دوّنها أحدهم على جدار: "انتبه الحرامي يخدم الاحتلال". في الظاهر، تبدو أنها مقولة عامة أو نصيحة لكل الناس، لكنها تعني أبعد من ذلك في ظل الظروف الحالية التي يمر بها قطاع غزة، فهي ربما لا تعني اللص التقليدي الذي يسرق من البيوت، وإنما المقصود منها ذاك البائع أو التاجر الذي توفرت لديه مواد تموينية في أوقات الحصار، لكنه رفع أسعار المواد إلى حد غير مقبول. وأما بقية العبارة "يخدم الاحتلال"، فالمراد منها أنها ممارسة حريّ بها أن تصدر عن الاحتلال، وهي إن صدرت عن قريب فهو بمنزلة المحتل.

على صعيد آخر، وفي مكان آخر في غزة، خطّ أحد الأبناء عبارة "أحلى شهيدة يا أمي… أمي الحبيبة، كيف ينام الألم. لقاؤنا في الجنة". إنها عبارة لا يمكن الاكتفاء بقراءة تفسيرية لها لتشرح معاني مفرداتها، فهي تستنزف كلّ المعاني لشدة ما تبعثه من ألم في نفس القارئ. بيد أنها بقدر الوجع الذي تحمله، فإنها، أيضاً، تحمل الشاعرية والجمالية الممزوجة بعذابات الموت، فمن هو ذا الذي يفاضل بين الشهداء ليختار الـ"الأحلى" بينهم؟ ومن هو ذا الذي غلبه ألم الفقد إلى درجة عدم مقدرته على النوم حتى يحصل اللقاء مع "أحلى شهيدة" من جديد؟

ثمة مفارقة عجيبة تخص موضوعة "غياب مؤلف" في تلك العبارات، إذ إنه نقدياً، كانت أعلَنت البنيوية "موت المؤلف" وأعلَت من شأن "النص، ولا شيء غير النص". أما في قطاع غزة، قُتِل واعتقل وشُرِّد المؤلف على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن ذلك ليس من أجل إعلاء قيمة "النص"، بل لأهداف عدوانية وانتقامية، ففي كل مرة تجتاح فيها دبابات الاحتلال أحد الشوارع أو الأحياء في غزة، يكتب الجنود عبارات على الجدران تعبّر عن إجرامهم، مثل "جئنا لننتقم".

المساهمون