كاميرا مُصابة بدهشة الصمت والخنوع

21 أكتوبر 2020
بيروت 2020: خراب أزقّة ونفوس (باتريك باز/ فرانس برس/ Getty)
+ الخط -

حكايات واقعية تشهدها بيروت كلّ يومٍ، تصلح لإنجاز أفلامٍ عن الانهيار الأخير وبؤسه. شخصيات أفلامٍ كهذه مواطنات ومواطنون يُقيمون في الحدّ الفاصل بين بقاءٍ في موتٍ، وعجزٍ عن مغادرة إلى أملِ حياةٍ ما. التخبّط أساسيّ، لكنّه حاضرٌ في عيشٍ أكثر من كونه قلقاً ذاتياً، يترافق وقلق الحياة في بلدٍ موبوء بالقتل والإقصاء والتدمير والكسر والتهجير. بعضٌ يُغادر، وكثيرون يبقون في الحيّز المخضّب بالجوع والغضب والانكفاء على الذات في عزلةٍ قاسية. بعضٌ يصرخ، وكثيرون يلوذون بصمتٍ قاهرٍ، وجزءٌ من الصمتِ خنوعٌ لقبيلةٍ وآمرها. بعضٌ يستعيد شارعاً لتعبيرٍ عن ألمٍ ولمطالبةٍ بحقّ، وكثيرون يكتفون بمُشاهدةٍ، إنْ تتسنّى لهم المُشاهدة، أو بانزواءٍ، فالانزواء بالنسبة إليهم أفضل وسيلة لحماية مصطنعة من أهوالٍ تحاصِر الجميع.

حكايات بيروت مؤلمة. الجوع يتسلّل كتسلّل كاميرا يرغب حاملها في اقتناصِ لحظةٍ ما، أو في التقاطِ حالةٍ ما، أو في تصوير نبضٍ ما، أو في توثيقِ انفعالٍ ما. حكايات تصلح لإنجاز أفلامٍ، قصيرة وطويلة ومتوسّطة الطول، تعكس حيوية موتٍ في عيش حياة ناقصة. حكايات مليئة بشتّى أنواع الدراما، لكنْ للكوميديا السوداء فيها مكانٌ أوسع من كلّ متخيَّل، وأعمق من كلّ غرقٍ. الوثائقيّ متمكّن منها، والروائيّ يُتيح للتجريب اختبار المُجرَّب في بلدٍ، يتفنّن قابضون على روحه وناسه وذاته ونَفَسه في صُنع معجزات التحطيم والإقصاء. والصامتون على وجعٍ يرضون بتحطيمٍ يظنّون أنّه غير مُكتمل، ما يعني، لهم، أنّ خلاصاً ما قريبٌ؛ ويستسلمون لإقصاءٍ يتوهّمون أنّه درب إلى نهاية آلامٍ، وقيامة حياة.

 

 

حكايات بيروت مكتوبة بآهاتٍ معطوبة، لكنّ إنصاتاً لها يجعلها مسموعة، فتُصبح قابلةً للتحوّل إلى أفلامٍ، لن تتمكّن من غلبة الواقع، فهذا الأخير أعنف من أنْ تختزله صورة، وأسوأ من أنْ تحصره لقطة، وأشدّ تدميراً من تفجيرٍ يُلغي مدينةً كاملةً، فيرضى مُقيمون فيها بذلٍ ومهانة، وحجج الرضى انعكاسٌ لخنوع مزمن، يُضاف إليه يأس الراهن وحسرة الآنيّ، رغم أنّ اليأس والحسرة لن يحولا أبداً دون انقلابٍ مطلوب، إنْ يقتنع الراضون بالخراب بانقلابٍ كهذا يُصيب كلّ شيء، ويحدث قبل أي شيء.

والكاميرا، سينمائية وفوتوغرافية، تعجز عن إلمامٍ وافٍ بتفاصيل مختبئة تحت ركام أبنية ونفوس، وبين أنقاض أزقّة وأرواح. تفاصيل يُراد لها اختفاءً كي لا تَفضَح شرّ مُتحكّمين بالبلد وناسه، ومساوئ أناسٍ كثيرين يرضون بالذلّ، لكنّ "الذلّ راضٍ بهم" لشدّة بطشه بهم، وتلذّذه بالبطش بهم وبصمتهم المخيف على البطش بهم. والكاميرا، إنْ تُغامِر في ارتكاب معصية التمرّد على الذلّ، تُصاب بدهشة الصمت والانزواء والخنوع، فتُهرول إلى قلّة (نادرة) تصنع تحدّياً وتريد مواجهة، رغم خيبات ومواجع وتمزّقات.

المساهمون