كاريكاتير "واشنطن بوست"... أن تبيح قتل الفلسطيني ثم تعتذر

09 نوفمبر 2023
من تظاهرة تضامنية في سان فرانسيسكو (ري تشافيز/ Getty)
+ الخط -

يكاد يكون تعداد سقطات الإعلام الغربي، منذ بدء العدوان على غزة، شبه مستحيل: من الترويج للرواية الإسرائيلية، إلى نشر أخبار كاذبة، إلى التحريض على ناشطين وصحافيين، وصولاً إلى فصل موظفين أو توقيفهم عن العمل بسبب تغريدة أو تدوينة تنتقد الوحشية الإسرائيلية. غرقت الصحف والمواقع والقنوات الغربية، حتى تلك المرموقة و"الرصينة"، في خطاب تحريضي، جعل منها بوقاً لخطاب الاحتلال، منذ أكثر من 30 يوماً. ورغم تسلل بعض التقارير والمقالات التي تطالب بوقف المجزرة، بقي الخطاب الطاغي هو ذاك المساند للاحتلال من دون أية مساءلة.
حتى أن صحفاً عريقة مثل "نيويورك تايمز" نشرت افتتاحيات موقّعة من فريقها التحريري تدعم فيها الاحتلال بشكل مباشر، بينما شككت صحف اخرى، تماهياً مع خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن، في الرواية الفلسطينية وأرقام الشهداء، والوضع الإنساني داخل القطاع.

نشر الكاريكاتير

لم يكن الرسم الكاريكاتيري الذي نشرته صحيفة واشنطن بوست، الأربعاء، سوى واحد من هذه السقطات، وإن بشكل أكثر فجاجة وتطرّفاً. في الرسم، الذي نشر في صفحة الرأي، نشاهد من يفترض أنه قيادي من حركة حماس، وهو يربط أطفالا فلسطينيين بجسده (كدروع بشرية)، كما يربط في جسده من الخلف سيدة فلسطينية. يرفع القيادي في الرسم سبابته، ويسأل "كيف تجرؤ إسرائيل على استهداف المدنيين؟". يبرّر راسم الكاريكاتير مايكل راميريز (رسام أميركي محافظ) قتل الأطفال والنساء والمدنيين إذاً، بحجة اتخاذهم دروعا بشرية. ويستفيض في عنصريته، ليضع العلم الفلسطيني على يسار الرسم، ومصلى قبة الصخرة في لوحة معلقة على الحائط على اليمين.
يختصر الرسم بديهيات خطاب الكراهية: من التنميط، إلى نزع الإنسانية عن الفلسطينيين، ثم العنصرية... وهي كلها شروط مجتمعة، تبرر وتتسامح مع المقتلة المتواصلة في قطاع غزة، التي تجاوزت حصيلتها 10 آلاف شهيد، القسم الأكبر منهم من الأطفال. كما يتبنى الخطاب الإسرائيلي كاملاً، خطاب "الدروع البشرية" التي يبرر فيها الاحتلال قصف المستشفيات والمدارس والكنائس والمراكز الثقافية. 
جاء هذا الرسم، بعد يوم من عقد أطفال في قطاع غزة مؤتمراً صحافياً يوم الثلاثاء أيضاً، في محاولة منهم لتفسير ما يتعرضون له "منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، نحن نتعرض لإبادة وقتل وتهجير، وتسقط الصواريخ فوق رؤوسنا، أمام مرأى ومسمع العالم. يكذبون على العالم بأنهم يستهدفون المقاومين، لكن كأطفال نجونا من الموت أكثر من مرة. نحن كأطفال نجونا من الموت أكثر من مرة. وجئنا لنحتمي في الشفاء (مستشفى غرب مدينة غزة)... نحن منذ أيام طويلة لا نجد ماء ولا طعاماً ولا خبزاً، ونشرب مياها ملوثة". وبين غزة وصفحات واشنطن بوست آلاف الكيلومترات، وخطاب لا يرى في هؤلاء الأطفال، سوى "أضرار جانبية" في حرب الاحتلال الإسرائيلي التي تبدو بلا نهاية.

تراجع الصحيفة

الخميس (اليوم)، وأمام سيل الانتقادات التي واجهتها على مواقع التواصل الاجتماعي، حذفت الصحيفة الرسم، ونشرت مكانه رسالة من محرر صفحة الرأي ديفيد شيبلي، وبعض الرسائل الغاضبة التي وصلتها من القراء. وجاء في اعتذار شيبلي "كمحرر لقسم الرأي، أنا مسؤول عما ينشر في هذه الصفحة، أي أن محتوى القسم يعتمد على حكمي. وافقت على نشر رسم كاريكاتوري لمايكل راميريز عن الحرب في غزة، وهو رسم اعتبره العديد من القراء عنصريًا. لم تكن هذه نيتي. رأيت الرسم كصورة كاريكاتورية لشخص معين، المتحدث باسم حماس الذي احتفل بالهجمات على المدنيين العزل في إسرائيل. ومع ذلك، فإن رد الفعل على الصورة أقنعني بأنني شيء عميق ومثير للانقسام وأنا نادم على ذلك". وأضاف "قمنا بحذف الرسم. وننشر أدناه مجموعة مختارة من الردود على الكاريكاتير...". وبالفعل اختارت الصحيفة نشر جزء من الرسائل التي وصلتها.
حذفت الصحيفة الرسم، لكن جولة سريعة في حساب مايكل راميريز على موقع إكس، تكشف ما هو أكثر عنصرية وأكثر تحريضاً من الكاريكاتير إياه... رسوم يومية تحرض على قتل الفلسطينيين، تحرّض على المتظاهرين المناصرين لفلسطين في الولايات المتحدة، تحرّض على المهاجرين... خطاب يمينيّ محافظ يتماهى مع الخطاب الطاغي على وسائل الإعلام الغربية منذ السابع من أكتوبر، علماً أن راميريز واحد من أشهر الأسماء في عالم الكاريكاتير الأميركي، وقد نال جائزتَي بوليتزر، إلى جانب جوائز محلية أخرى.

نتنياهو 2019

ليست هذه هي المرة الأولى التي يثير فيها رسم كاريكاتيري جدلاً كبيراً في الولايات المتحدة. إذ عادت إلى الواجهة، حادثة أخرى عام 2019، عندما نشرت صحيفة نيويورك تايمز رسماً يُظهر رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على شكل كلبٍ وفي عنقه طوق تتدلى منه نجمة داود، يُرشد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي يبدو ضريراً ويعتمر قلنسوة. أصدرت الصحيفة اعتذاراً حينها، قائلة إن الرسم "معادٍ للسامية بشكل واضح ولا يمكن الدفاع عنه". وأوقفت الصحيفة بعد هذه الحادثة نشر الرسوم الكاريكاتيرية السياسية في نسختها المحلية والدولية. فرسم اعتبر "معادياً للسامية" أدى إلى توقف صحيفة بحجم "نيويورك تايمز" إلى وقف نشر الرسوم السياسية نهائياً، بينما رسم يحرض على قتل الفلسطينيين وسط مجزرة مفتوحة منذ أكثر من شهر، لم يستدعِ رد فعل أكثر راديكالية من مجرد حذف الكاريكاتير.

طرد موظفين

في سياق مشابه، بالإمكان طرح أسئلة كثيرة حول ردة فعل "واشنطن بوست" أو أي صحيفة غربية لو نشر رسم عنصري ينتقد الاحتلال الإسرائيلي. طبعاً كانت الصحيفة ستوقف التعاون مع الرسام، كما أوقفت مؤسسات إعلامية عدة التعاون مع كتّاب ومحررين، لمجرد تغريدهم مطالبين بوقف إطلاق النار، أو اتهامهم لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب. مثلاً، دفعت صحيفة نيويورك تايمز بالصحافية جازمين هيوز، وهي واحدة من أشهر الصحافيات العاملات في المجلة التابعة للصحيفة، إلى تقديم استقالتها بسبب "انتهاك سياسة غرفة الأخبار" إثر توقيعها على رسالة مفتوحة اتهمت إسرائيل بمحاولة "ارتكاب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني"، وذلك في ظل استمرار العدوان وارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين. بينما أقيل رئيس تحرير واحدة من أهم المجلات الفنية في العالم "آرتفوروم" (Artforum)، ديفيد فيلاسكو، وذلك بعدما نشرت المجلة رسالة مفتوحة عن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. كما فصل موقع "فيلي فويس" الأميركي، مراسله الرياضي جاكسون فرانك بعدما عبّر عن تضامنه مع الفلسطينيين في تغريدة على موقع "إكس"، مع بدء العدوان. فقد مراسل رياضي في فيلادلفيا وظيفته بعد أن غرّد بـ"تضامنه" مع فلسطين في أعقاب هجوم حماس المميت على إسرائيل.
وفي بريطانيا أوقفت هيئة الإذاعة البريطانية 6 عاملين في خدمتها العربية، وأخضعتهم لتحقيق داخلي، بسبب تغريدات متعاطفة مع فلسطين. بينما اضطر صحافيون كثر إلى الاعتذار عن مواقفهم او عن تغريداتهم، كما فعلت رئيسة تحرير مجلة "هاربرز بازار أميركا" سميرة نصر التي كتبت على "إنستغرام" أن قطع إسرائيل المياه والكهرباء عن غزة هو "أكثر فعل لا إنساني شهدته في حياتي"، فواجهت حملة شرسة لدرجة دفعتها إلى الاعتذار. ووفقاً لـ"ذا نيويورك بوست"، فإن سميرة نصر تكافح حالياً كي لا تخسر وظيفتها.

المساهمون