كانت كرة القدم لعبة تخضع خضوعاً كاملاً للمنطق، ويمكن استقراء النتائج فيها مسبقاً، من خلال المؤشرات والمعطيات المتوفرة لدينا، فأين تكمن الإثارة فيها إذاً؟ ولماذا تجتمع كل هذه المنتخبات للمشاركة بكأس العالم؟
من الطبيعي أن نطرح تساؤلات من هذا النوع، في الوقت الذي باتت فيه توقعات الذكاء الصناعي للفائز بكأس العالم تتصدر عناوين الصحف العالمية، وتنتشر بالأوساط الشعبية، بوصفها التوقعات المبنية على أسس علمية دقيقة والأقرب لليقين؛ إذ إننا نشهد اليوم واحدة من أكثر الظواهر العلمية الشعبية غرابة؛ ظاهرة الإيمان بقدرة الذكاء الصناعي على لعب دور العرّاف القادر على استنباط المستقبل!
التوقعات التي سُجلت لأجهزة الكمبيوتر العملاقة المزعومة في هذه النسخة من كأس العالم قد أسفرت عن نتائج مختلفة، ليُتَوج المنتخب البرازيلي بطلاً في النموذج المتكامل الذي نشرته ESPN، وكتبت فيه نتائج جميع المباريات بدقة، وكأنها تكتب نتائج مباريات كأس العالم بعد أن لُعبت فعلاً. وتنبأت العديد من مواقع البيانات باحتفاظ المنتخب الفرنسي باللقب للمرة الثانية على التوالي، أبرزها موقع The Analyst الذي تبنت SPORTbible نتائج توقعاته.
ولم تخل توقعات الذكاء الصناعي من العاطفة؛ فالكمبيوتر العملاق الذي اعتمدت عليه صحيفة ماركا الإسبانية، تنبأ بالتقاء المنتخبين البرتغالي والأرجنتيني في المباراة النهائية، لتلبي بذلك تطلعات الجمهور بأن تنتهي مسيرة كريستيانو رونالدو وليونيل ميسي في كأس العالم بلقاء تاريخي في نهائي البطولة، وقد رجحت "ماركا" كفة ميسي لحمل الكأس الذهبية.
ورغم أن تضارب التوقعات التي نُشرت على مسؤولية الكمبيوترات العملاقة تُثبت فشل التجربة، فإن شريحة كبيرة من الجمهور تتعامل مع هذه التوقعات بأنها تملك درجة عالية من اليقين بالفعل، ليؤثر ذلك بشكل كبير على اختيارات المقامرين، الذين أنفقوا عشرات الملايين في ألعاب المراهنات بتأثير الخرافات العلمية الجديدة.
الكمبيوترات العملاقة ليست خرافة بالطبع، فهي أجهزة كمبيوتر ذات إمكانيات هائلة جداً موجودة بالفعل منذ ستينيات القرن الماضي ولا تزال تتطور، وتستخدم لمعالجة كم هائل جداً من البيانات، ولها القدرة على تخزين البيانات والمعلومات والبرامج، كما تُستعمل في العلوم والأبحاث المتقدمة، للتنبؤ بالطقس أو لمحاكاة الخلايا الدقيقة في الجسد البشري.
لكن وجود هذه الأجهزة، وقدرتها على محاكاة الواقع، وإجراء عمليات حسابية بغاية التعقيد، لا يعني إطلاقاً أنها مؤهلة لحساب نتائج مسابقات تخضع لظروف وعوامل إنسانية متغيرة بشكل دقيق، لا سيما أن العمليات الحسابية التي تجريها الكمبيوترات العملاقة تعتمد بشكل رئيسي على معطيات نملكها، مثل: تصنيف الفيفا للمنتخبات، الخط البياني للمباريات الأخيرة، تاريخ المواجهات المباشرة بين كل منتخبين. لكن الحسابات تهمل بالمقابل العديد من العوامل الموضوعية التي قد تؤثر بشكل أكبر على النتائج، كالإصابات، والتحضير الذهني والتأثير الإعلامي، بما فيه تأثير نشر توقعات "علمية" بوقت مسبق.
إدراك ذلك يجعل من مسألة التوقعات، المبنية على عمليات رياضية منطقية محضة، لا تُعطي غالباً نتائج يقينية، وإنما تكتفي بحساب النسب المئوية لحظوظ كل منتخب بالتأهل إلى الأدوار الإقصائية، ومن ثم حساب كل الاحتمالات، لتكون النتيجة النهائية على شكل نسب مئوية، لا يقين فيها. على سبيل المثال، وبخلاف معظم التقارير الصحافية التي تنقل عن SPORTbible توقعها بحصول المنتخب الفرنسي على اللقب؛ فإن النتائج المنشورة بالتقرير الأصلي تعطي كل منتخب نسبة مئوية؛ الأعلى فيها لفرنسا بنسبة 17.93 في المائة، تليها البرازيل بنسبة 15.73 في المائة، ومن ثم إسبانيا بنسبة 11.53 في المائة. وأما باقي المنتخبات فلا تتجاوز حظوظها نسبة 8 في المائة. هذه الأرقام ربما تجعل الأمر يبدو أكثر منطقية، ولكنها غير جذابة بالنسبة لغالبية الصحف الرياضية حول العالم، التي تبحث عن عناوين مثيرة، توحي بأن النتائج العلمية محسومة، وأن العلم سيدخل في اختبار جديد بمونديال قطر؛ الذي قد تتحقق به أحد توقعات الكمبيوترات العملاقة، وقد يؤدي ذلك إلى ازدياد الإيمان بقدرة الذكاء الصناعي على التنجيم بالمسابقات الرياضية.
دراما التوقعات لا تقتصر بالتأكيد على هذا التحدي الذي يعيشه الذكاء الصناعي في الإعلام اليوم، فالجميع بإمكانه أن يرسم خريطة لتوقعاته الخاصة عن مجريات البطولة. وقد بدأت هذه الدراما مبكراً مع بداية العام الحالي، حين نشر منجمون مشهورون في العالم العربي توقعات متعلقة بالمونديال القطري؛ معظم التوقعات أثبتت فشلها قبل افتتاح البطولة، إذ توقع ميشال حايك لمنتخب الجزائر أن يكون مفاجأة البطولة، وأن يصل لأدوار متقدمة فيها، متجاهلاً أن المنتخب لم يتأهل للمونديال أصلاً! بينما توقع البعض أموراً أخرى لم تُحسم بعد، مثل توقع مايك فغالي بطلاً جديداً للنسخة القادمة من كأس العالم، لم يحمل الكأس من قبل.
ما نلاحظه أيضاً أن لعبة التوقعات يشارك فيها الكثيرون من باب التسلية فقط، وأن الضحك أحياناً يكون هو الدافع أمام الدخول بهذه اللعبة. يمكن التماس ذلك بآلاف التعليقات الساخرة التي تتوقع مثلاً حصول إيطاليا على كأس العالم، بعد إخفاقها بحجز مقعد في المونديال القطري، أو بالخرائط الغريبة التي يرسمها البعض للأدوار الإقصائية، والتي تغيب عنها كل المنتخبات المرشحة للحصول على اللقب؛ فهذه التوقعات ليست جدية بالتأكيد، لكنها تعطي لحمى التوقعات التي يعيشها الإعلام بهذه الفترة نكهة خاصة.
وما بين الحتمية العلمية وهزل الساخرين والمنجمين، تأتي البرامج الرياضية التي تملأ أوقات الفراغ في انتظار الحدث الأعظم على مستوى كرة القدم؛ لنشاهد برامج عدة تستضيف لاعبين ومدربين ومحللين رياضيين، أبرزها برنامج "توقعاتي"، الذي يستضيف بكل حلقة ضيف يرسم الخريطة التي سيسير عليها كأس العالم بحسب توقعاته. التوقعات غالباً ما تمزج بين المنطق والعاطفة؛ لنشاهد أن الغالبية يرشحون تأهل المنتخبات العربية للأدوار الإقصائية، رغم صعوبة المجموعات التي وضعوا بها، والغالبية أيضاً يتوقعون خروج المنتخبات العربية بالدور ثمن النهائي؛ لتعكس هذه التوقعات محدودية الحلم العربي في المونديال الذي يُقام للمرة الأولى على أرض عربية. التوافق بحدود الحلم يبدو غريباً حقاً! فلو كنت تحلم بأنك ستربح اليانصيب، لماذا لا تحلم بأنك ستربح الجائزة الكبرى؟