النجاح الدولي الكبير الذي حظيت، ولا تزال تحظى به السينما الإيرانية، أخفى ظروفاً مُستحيلة كثيرة يعمل في ظلّها معظم صنّاعها في إيران. الظروف تلك ليست متعلقة بالإنتاج والتوزيع، فهذه قواسم مشتركة في العالم، ولا التضييق السياسي أو الأحكام القضائية بالمنع من العمل (مدى الحياة أحياناً)، أو السفر. المقصود، تحديداً، الرقابة التي تُعانيها الصناعة والعاملون فيها منذ عقود طويلة.
لا يُقصَد بمصطلح "الرقابة الإيرانية" القيود العادية المُتعارف عليها، المُنصبّة على آراء سياسية أو دينية، أو انتقادات للدولة أو أفراد في النظام، أو التقاليد والأعراف. هذه كلّها مُسلّم بها في دول كثيرة في المنطقة، لا تزال ترزح تحت تسلّط مُنافٍ لحرية الرأي والتعبير والإبداع.
إذاً، أيّ مُحرّمات تلك التي يُمنع على العاملين في السينما الإيرانية كسرها أو تحدّيها أو الاقتراب منها؟
هناك كمٌّ هائل من الممنوعات الرقابية، يصعب حصرها، لغزارتها وغرابتها. لكنْ، بما أنّ المُشاهد اعتاد السينما الإيرانية وأسلوب عملها ونمط الصورة الذي تقدّمه، لم يعد يلاحظ أنّ هناك ما يُعيق الإبداع، وأنّ الأمور غير طبيعية إلى حدّ كبير. الأمر ناتج من اهتمام المخرجين بالجوانب الإبداعية للصناعة، كالاعتناء أكثر بجماليات الصورة، وقوّة السيناريو والحوار، ومستوى الأداء التمثيلي، لتجاوز العقبات الرقابية، ولعدم لفت الانتباه كثيراً. ورغم توظيف جماليات معيّنة، كالتحايل والمراوغة، يبدو تأثير الرقابة جليّاً في معظم الأفلام الإيرانية، خاصة الترفيهية أو غير الفنية.
مثلاً: غطاء الرأس من أهم القضايا الإشكالية رقابياً في السينما الإيرانية. الغطاء ليس الحجاب المُتعارف عليه، بل وشاح يُغطّي معظم شعر الرأس من دون مُقدّمته. المُفارقة أنّ قانون الرقابة في إيران يسمح للمرأة، منذ أعوام، بالتمثيل، شرط أنْ يُغطّى الرأس بالوشاح، ويُمنع عليها منعاً باتاً خلعه أثناء الفيلم، إنْ تكن نائمة في منزلها، أو في سرير في فندق أو مستشفى، أو في الحمام، أو تحت المطر، حتّى وإنْ تكن بمفردها. عباس كياروستامي تجنّب مَشَاهد كهذه كي لا يتعرّض للرقابة، بينما لجأ أو اضطرّ كثيرون غيره إلى تنفيذها، ما جعلهم غير مُدركين لفجاجة ما يقدّمون، وافتقاره أدنى حدود الواقعية والمصداقية. بالتالي، يجد المُشاهد نفسه عاجزاً فعلياً عن عدم الضحك، أمام ممثلة تجفّف شعرها من فوق الوشاح.
لا ينطوي هذا على زيف وبلاهة ما يُقدَّم للمُشاهد فقط، أو يتعارض مع قناعاته، أو يتناقض مع بديهيات الصناعة السينمائية. ففي أفلام تجارية كثيرة، هناك ما يُطلق عليه سينمائياً "راكور": في مَشهدٍ، يركض ممثل وممثلة تحت المطر وهما مبتلّان تماماً، وفي اللقطة التالية مباشرة، نجد الشعر مبلّلاً، لكن لا أثر للبلل على الوشاح. حبيبان يرمي أحدهما الآخر في المياه، فيبتلّان. في اللقطة التالية مُباشرة، هو يُجفّف شعره بمنشفة، بينما يكون وشاحها وشعرها جافين تماماً.
هناك أيضاً كيفية استيعاب المُشاهِد وتفاعله مع عدم تقبيل الأب لابنته، أو الأم لابنها، وإنْ يقتصر الأمر على تقبيل اليدين، أو المُصافحة؛ أو إمساك الطبيب/ الطبيبة بالمعصم لقياس النبض. ناهيك بالرقص والغناء: في الرقص، هناك اهتزاز آليّ انفراديّ من دون وجود أحد؛ وفي الغناء، تحريك شفاه فقط مع الأغنيات، فصوت الأنثى كمغنية ممنوع رقابياً.
أمثلة كهذه، وغيرها أيضاً، تصنع تعذيباً أكثر من كونها قوانين للحفاظ على أيّ شيء. والقوانين دفعت مخرجين إلى التلاعب والتحايل واللجوء إلى أساليب لتمرير أفلامهم على الرقباء من دون خسائر فادحة، تبلغ أحياناً المنع والمُصادرة، وأحياناً أخرى توقيف المخرج ومنعه من مُمارسة الإخراج السينمائي. قوانين مُقيِّدة أوجدت ما يُمكن وصفه بـ"جماليات التحايل والمراوغة". صحيحٌ أنّ هذا ربما يبدو بدائياً أو ساذجاً أو شديد الافتعال، لكنّه موجود في السينما الإيرانية عامة، ولا يمكن التغافل عنه. مثلاً: أثناء حفل زفاف، تجنّب مخرجٌ احتضان العريس لعروسه وتقبيلها، وتقبيل الأب رأس ابنته واحتضانها، فتحوّل العروس إلى ملاك صغير، أو صبي بلباس عروس بين يديّ العريس أو الأب، فتنطبع القبلة، ويتمّ العناق. الحلّ؟ كلّ منهما في غرفة. ثم تنقل الكاميرا المشهد عبر الجدار الفاصل بينهما، أو أنّ تتمّ المُلامسة من فوق قطعة قماش، أو كمّ قميص، أو لباس النوم.
هناك أيضاً مشهد قتيلٍ تريد زوجته أنْ تقبّله على خدّه أو جبهته. يُقطع مشهد القتيل قبيل وفاته، ثم صوت رصاصة تنطلق، أو اصطدام ما. ثم قطع آخر، وقد انطبع أحمر شفاه على خدّه أو وجنته، في تسلسلٍ يبدو غريباً للغاية ومُثيراً للضحك. لكنْ في السياق الرقابي الصارم، يبدو مفهوماً. في المقابل، ورغم القوانين التي تُحرِّم كلّ أنواع التلامس بين رجل وامرأة، تُصبح القوانين نفسها متسامحة للغاية إزاء الضرب أو الصفع أو الركل التي يُسدّدها الرجل على المرأة. لذا، يُمكن وصف تلك القوانين كنوعٍ من اضطهاد المرأة والتجنّي على حريتها في المجتمع الإيراني. ولو تمّ التدقيق أكثر في معظم القوانين الرقابية المطروحة، إنْ لم تكن كلّها، يظهر تركيزها أساساً على المرأة.
رغم الأمثلة البسيطة المذكورة أعلاه، لم تُعانِ السينما الإيرانية ضعفاً أو تردّياً كامِلَين. يتجلّى هذا على مستوى التمثيل، خاصة النسائي، الذي بلغ مستويات رفيعة للغاية، رغم القوانين والتحدّيات. هنا، يبرز منحى آخر، يتمثّل في مقاومة الفنانين الإيرانيين ورغبتهم القوية في تغيير الواقع، وكسر الرقابة وتحدّيها، وعدم الاستسلام وترك البلد. النتيجة؟ بإصرارهم وذكائهم وجدّيتهم، أوجدوا لأنفسهم مساحات كبيرة في محافل سينمائية دولية، وحصدوا جوائز عدّة، وبات يُضرَب المثل بهم، بفضل صناعتهم أفلاماً راقية ومتميزة.
فالنجاح لا تعيقه قيود وموانع وقوانين رقابية، كتلك الموجودة في إيران.