قمع الصحافة في فلسطين مزدوج... وأبعاده أخطر في مواجهة الاحتلال

28 يونيو 2021
من الاشتباكات خلال التظاهرات الفلسطينية الأخيرة (عباس موماني/فرانس برس)
+ الخط -

من يعرف ظروف العمل الصحافي في مناطق السلطة الفلسطينية، في الضفة الغربية وغزة، لن تصدمه مشاهد وأخبار القمع والاعتداء الذي يتعرض له ناقلو الخبر والحدث، خصوصاً خلال الأيام الأخيرة في رام الله، التي تعتبر "عاصمة العمل السياسي الرسمي".

ولعلّ الجديد في المشهد، أنّ "نقابة الصحافيين الفلسطينيين" تغيّر خطابها قليلاً. فالدعوة إلى "مقاطعة أخبار الرئاسة والحكومة" أقل ما استطاعت أن تذهب إليه نقابة محكومة منذ الانقسام الفلسطيني، بين غزة والضفة، برقابة سياسية مقسمة لكل العمل النقابي والسياسي الفلسطيني. 

في الجانب الآخر، وهو الجزء المخزي في الحالة الفلسطينية، الرسمية والفصائيلة، تحت واقع احتلال يحيط بمناطق السلطة المصنفة "أ" و"ب" و"ج"، والمستبيح لها قمعاً واغتيالاً لفرض تهويد في القدس، على طريقة الحرم الإبراهيمي في الخليل، أن يُدفع بـ"حزب السلطة" لمواجهة في الشارع غير بعيد عن شارع نابلس الموصل إلى مستعمرة "بيت إيل"، بدل مواجهة قطعان المستوطنين على امتداد الضفة الغربية المحتلة.  

و"حزب السلطة" ليس مصطلحاً مجازياً في الحالة الفلسطينية. وبغض النظر عن حجم تحويل حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" إلى مشهد يذكر بمشهد سلطوي عربي آخر، فإن الواقع مرير جداً. 

أن يُعتدى على الصحافيين من جانب الاحتلال الإسرائيلي يبدو مفهوماً في سياق تطبيق النهج الصهيوني منذ 1948 في مشروعه القائم على الاضطهاد والقمع. بيد أنّ انخراط "مدنيين" بحجة "الدفاع عن الشرعية" يُذكّرنا بالمدى الذي يمكن تغول "السلطة" (أي سلطة تعيش مفسدة البطش) في مواجهة شعبها أن يصبح كارثة. 

فليس مفخرة أن يقال إن "حركة فتح" تصير إلى عمل "زعران" و"شبيحة" و"بلطجية"، تستورد أساليب السلطوية العربية في القمع، لمصلحة التعمية على احتقان حقيقي وعميق إزاء كل العمل السياسي الفلسطيني، العاجز عن مواجهة أزمة وجودية، وانكفاء المصارحة لمصلحة تلميع وتطبيل لإنجازات واهية منذ أن دخل الفلسطينيون نفق أوسلو في عام 1993. 

بالتأكيد، يدرك الصحافيون الفلسطينيون أن عملهم تحت الاحتلال له أثمانه، لكنها تصير مضاعفة بتصرفات سلطة قمعية، سبق لها أن واجهتهم باستدعاءات للتحقيق وإيصال رسائل تكميم أفواه، بما في ذلك العمل الاستقصائي الذي اقترب من الفساد المؤسساتي، والمستمر قمعه منذ 2008، لثنيه عن الخوض فيه. وأما محاولة الظهور بمظهر متحضر، فلم تعد تجدي نفعاً مع واقع أليم على الكل الفلسطيني، وليس فقط على الصحافة الحرة وحرية التعبير. 

أخطر ما يقدمه القمع، أنه ليس فقط يمنح صك براءة للاحتلال الإسرائيلي (الذي بالتأكيد يشعر بسعادة وهو يراقب من مستوطنة بيت إيل هذا المشهد القمعي بأيادٍ فلسطينية)، مثلما يفعل النظام الرسمي العربي، بل أن يجري تسميم الجسم الصحافي الفلسطيني بانقسامات تزيد انقسامه السابق باسم "الوطنية الصحيحة".  

فما من شك في أن الصحف الرئيسة (مثل "الأيام" و"الحياة الجديدة")، ووسائل إعلام أخرى محلية، يهيمن عليها لون سياسي يتبرع ببيانات مؤيدة بشكل أعمى للسلطة. وذلك يزيد من مخاطر التقسيم واللعب على وتر "وطني قح" لمن يقف مع السلطة واتهام بـ"أجندة خارجية" (على طريقة الأنظمة المستبدة في المحيط) لمن ينتقد ممارساتها وأجهزتها الأمنية؛ فالاعتقال السياسي والقتل تحت التعذيب يؤديان بالمشهد الفلسطيني إلى مزيد من احتقان منذر بخطر صدامات ليست في مصلحة فلسطين. 

وشاءت السلطة أو أبت، ومعها "فصائل العمل الوطني"، فإن حالة قمع الحريات والتغطية على استشراء الفساد، وهيمنة العقل السلطوي-القمعي، سيضعها العالم المراقب (والمتفرج بالأساس) في سلة واحدة مع بقية الأنظمة العربية التي استقوت على شعوبها بمسلحين باسم "الوطنية" و"الوطن".  

من يراقب، عربياً وعالمياً، هذا المشهد الفلسطيني المنحدر، عداك عن دولة الاحتلال ووسائل دعايتها التي تشعر بنشوة السحل في رام الله، وغيرها عربياً لتسوق أنها "الديمقراطية الوحيدة في المنطقة"، في الوقت الذي تواجه فيه الشيخ جراح وسلوان ونابلس والخليل التهويد والتهجير القسري، سيجدونها فرصة لتحويل النقاش والتصويب، من قضية تحرر وتقرير مصير إلى غرق في تفاصيل لا تنتهي من بديهيات الحريات الأساسية للفلسطيني. 

فكيف بحق السماء تشكو محتلاً مضطهداً وأنت تمارس ذات الاضطهاد بحق شعبك وصحافته التي يفترض أنها في الصفوف الأولى لكشف هذا الاحتلال؟ 

وعليه، فإنّ استسهال قمع الصحافة والصحافيين الفلسطينيين، لأنها بأيادٍ فلسطينية، مهما كان مصدرها، ومن بينها للأسف حالة تعصب تنظيمي-فصائلي وشعبوية خطاب "الوطنية" و"المؤامرة"، سواء كان في رام الله أو غزة، يعني استسهال تسويق كل مستويات قمع الحريات الأخرى، بما فيها حرية التعبير كشكل رئيس في مواجهة اضطهاد كيان الأبرتهايد. فشعب لا يستطيع التعبير بحرية، لن يكون قادراً على مواجهة محتليه ومغتصبي أرضه، وتلك معادلة لا تحتاج إعادة تعريف. 

أما الغرق في وظيفة تحويل النقابات والمؤسسات (بما فيها كليات جامعية بعينها بحكم هيمنة تيار فصائلي بعينه) والصحافة والفصائل (وبشكل رئيس الإيحاء بأن حركة "فتح" كتلة صماء خلف رئيس السلطة)، بل وتحويل منظمة التحرير الفلسطينية، الموكل إليها تمثيل الشعب الفلسطيني والعمل على تحرره وتقرير مصيره، إلى ذراع سلطوي وكتل متناحرة خلف وضد السلطة، هو وغيره لن يؤدي، بكل أسف، إلا إلى تردي الحالة أكثر من رداءتها منذ "أوسلو" 1993. 

في نهاية المطاف، المعادلة بسيطة جداً: لن يقبل الصحافيون الفلسطينيون، ولا الشارع أن يعيشوا قمعاً مزدوجاً... وستعيش السلطة، إن أمعنت في أوهام ترويض الفلسطينيين على طريقة الديكتاتوريات العربية، مزيداً من الانهيار، وبالتالي انفضاض الناس حتى من حول فصائل فلسطينية، وتلك لها كلفة كبيرة، ليس للفلسطينيين ترف الوقت والجهد لصرفه وهم في مواجهة الاحتلال الاستعماري بكل مشاريعه التدميرية للكل الفلسطيني. 

حرية الصحافة والتعبير، فلسطينياً، ليست من الكماليات، بل هي أس التحرر الوطني وتقرير المصير واستمرار المجتمع الفلسطيني بتمايزه في وحدة هدفه تحت سقف التعددية والديمقراطية، وبدون ذلك ستتعمق السلطوية وسيجدها المحتل فرصة لخلق مزيد من التقسيم وتنفيذ احتلال دون ثمن.

المساهمون