"قلب الطاولات": تثوير سينمائي لسؤال الهجرة

19 اغسطس 2024
"قلب الطاولات": تجديد لا يصل حدّ التطرّف (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

تستبدل الألمانية أنجلينا ماكاروني زوايا النظر السائدة اليوم في البلدان الغربية، المتعلّقة بموضوع الهجرة وأسئلتها، عبر مراجعة التقسيم الحاصل فيها بين طرفين: المهاجرون (هم) والمجتمع الواصلون إليه (نحن)، الذي يجعل الأول موضوعاً إشكالياً، بينما يُتَجاهَل الثاني ودوره في مصائر حياة الغرباء، القادمين إليه هرباً من أزمات عميقة، أو طمعاً بحياة أفضل من تلك التي يعيشونها في بلدانهم.

هذا التصوّر، المنطلق من دعوة إلى قراءة نقدية وذاتية خاصة بمشهد الهجرة في أوروبا، يستدعي كتابة سينمائية مختلفة بالضرورة، فكراً واشتغالاً جمالياً.

"قلب الطاولات" (2024)، أو "خفي" (ترجمة تقريبية للعنوان الألماني)، يراهن على تجديد لا يصل حدّ التطرّف، بل تحاول ماكاروني الجمع فيه بين الشكل التقليدي للسرد، والتثوير الهادئ من داخله. المعالجة السينمائية المقترحة للموضوع، وشكل سردها درامياً، يأتيان في سياق أحداث متشابكة، المهاجر فيها ليس وحده في المركز، بل هناك أيضاً أبناء البلد المتوّرطين في تعقيد وضعه، والمتعاملين معه ككائن هامشي قابل للاستغلال، يَسهل الابتعاد منه حالما يجد الغريب نفسه في محنة، وينتظر منهم مساعدته على تجاوزها.

يضع النصّ السينمائي (سيناريو ماكاروني) السياسة والإرهاب عند نقطتي البداية والنهاية. نقطتان إشكاليتان، بينهما مساحات تشغلها حيوات منغمسة بمشاغلها الحياتية، ومتفاوتة الطموحات والأهواء. لكنْ، ما يحدث بينهما يكفي لكشف معادنها، وتعرية البنية الأخلاقية التي جُبلت عليها. في الغرب، الأنانيات الفردية سمة عامة لسلوكيات الأفراد، ومحرّكها القوي في مواجهة تحديات الحياة. وفي مقابل الجغرافيات الأوروبية، طنجة المغربية، هناك حاجة ورغبة عند الأفراد في تحسين أحوالهم. إنّها تجيز، أحياناً، تخطّي المتعارف عليه من قيم.

في البداية، يظهر بهاء فرانكفورت الألمانية في مشهد بانورامي جميل، يُلتَقط بطائرة "درون" من علوّ. فجأة، يتشوّش المشهد إثر سماع دوي انفجار شديد، يهزّ مكاناً ما. في نقطة تفتيش حدود مغربية، تُفتَّش سيارة الرسام الإنكليزي ريتشارد (لامبرت ويلسون). بعد السماح له بالعبور، يظهر من بين اللوحات الشاب مالك (حبيب أدا) مُتخفياً وراء إحداها. يصل إلى ألمانيا رفقة فنان مثلي الجنس، يُحبّه بطريقة تُثير التباساً في توصيفها، كونها علاقة تجمع بين شغف جسدي ورغبة في مساعدة نزيهة.

في المسار كلّه لـ"خفي"، تتشابك العلاقات والمصالح، فيغدو الأمر عصياً على الحكم. هذا تريده ماكاروني من المتفرّج: إبعاده عن الأحكام المسبقة، لأنّها تورّط مالك وغيره في مشاكل لا علاقة لهم بها. التداخل والالتباس في كتابة الشخصيات، وزعزعة أحكام اليقين المسبقة حولها، يخلقان حالة تثوير داخلي للنص، ويستدعيان تفكيراً بتكوينات أبطالها، نفسياً وأخلاقياً. لانشغاله بمعرضٍ يستعد لإقامته في بريطانيا، يوكل الرسّام صديقته السياسية اليمينية ماتيلدا (باربرا سوكوفا) إيواء مالك فترة وجيزة عندها، ويطلب منها مساعدته في الحصول على إقامة مؤقّتة.

 

 

بين مواقفها اليمينية المعلنة ضد المهاجرين، ووجود مهاجر غير شرعي في شقّتها، هناك ارتباك حاصل خارج إرادتها. استعانتها بالمحامية أمينة، عربية الأصل (الإيرانية بانافشي هورمازدي)، لإدارة أعمالها، تعمّدٌ يراد به التغطية على مواقفها الحقيقية. بينهما تشابه في ارتباك التكوين. العربية الأصل تريد الألمانية هوية وحيدة لها، بينما السياسية الألمانية تحاول مساعدة العربي، إرضاء لصديقها، ولتاريخ شخصي قديم عندها، يوم كانت ميالة إلى أفكار اليسار في شبابها.

هناك تشويش في موقف الشاب من صلته الجنسية بالرسام البريطاني، المتأتية لا من رغبة داخلية صادقة، بل من حاجة إلى خلاص وجودي ينشده، ويريد الوصول إليه عبر هذه العلاقة. علائق متخلخلة الدوافع، تمنح النص السينمائي ديناميكية تبلغ ذروتها لحظة اتّهام الشرطة لمالك بتورّطه في تفجير فرانكفورت. نقطة النهاية تأتي بعد تقلّبات مواقف أطراف كثيرة من مالك، ومن وجوده غير المرحّب به قريباً منها. تسجيلات كاميرا شارع عمومي تعتمدها الشرطة في تهمتها إياه، وتستند في قناعاتها على ظهوره فيها مع شبابٍ تعرّف إليهم، وأمضى وقتاً قصيراً معهم، بعد أن وجد باب شقة ماتيلدا مغلقاً، فيقرّر تمضية الوقت في الشارع، إلى حين عودتها. تعرّفه السريع إليهم، وعدم اشتراكه معهم في عملهم الإرهابي، لم يشفعا له أمام رجال الشرطة. بعدها، يُتّهم الشاب بارتكاب جريمة خطرة، تعرف السياسيّة اليمينية مدى صدق براءته منها، لكنّها لا تريد التورّط فيها، فتنكره، ولا تستبعد تورّطه فيها. يبتعد الرسام، ولا يبقى مع الشاب إلاّ أمينة، التي توكّل نفسها أمام الشرطة محامية له.

بين البداية والخاتمة، تمتلئ المسافة الفاصلة باشتغالات سينمائية رائعة، يُلازمها جمال تصوير وتمثيل بارعين، وفي متنها تتجلّى رؤية سينمائية نقدية لمواقف مسبقة من المهاجرين، وتمنّعاً من الحكم الجاهز على أبطاله وسلوكياتهم، لأن صانعته أرادت أنْ يترفّع نصّها السينمائي عن الحكم على أفعال أبطاله وسلوكهم. لذا، وضعت بينها وبينهم مسافة، استثنت منها قليلاً لأمينة كي تعاين بإمعان موقفها الشجاع، المنحاز إلى العدالة، أكثر منه ميلاً إلى العرقي الذي فيها.

هذا يجعل "خفي" متفرّداً بين أفلام كثيرة عالجت أسئلة الهجرة، تجرّأ القليل منها على النظر إلى ذاته بتلك الطريقة الهادئة المستفزِّة لعالمٍ مختلّ التوازن، يتلكّأ كثيراً في البحث عن الحقيقة، ويتجنّب النظر إلى الأطراف التي تُشكّل مشهد الهجرة بعين عادلة، كتلك التي نظرت فيها أنجلينا ماكاروني الشاب مالك المغربي، وهو يعاني ظلماً كبيراً يلحق به، ويُبدّد كلّ أحلامه.

المساهمون