قضية الصحافي اليمني محمد العبسي: أين ملف التحقيق؟

08 يناير 2023
رحل في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2016 (فيسبوك)
+ الخط -

في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2016، فُجع الوسط الصحافي برحيل محمد عبده العبسي في العاصمة اليمنية صنعاء (شمالي اليمن)، بعد حياة مهنية حافلة في مجال الصحافة الاستقصائية، تتبع خلالها الكثير من مواضيع الفساد مغامراً بحياته التي سُلبت منه في النهاية.
تناول العبسي وجبة العشاء خارج منزله برفقة أحد أصدقائه ليلتها، وبعد عودته إلى المنزل، لم يكن طبيعياً، كما تؤكد، لـ"العربي الجديد"، الناشطة قبول العبسي، شقيقة الصحافي: "كان يتعرق بشكل غير مألوف في ظل برد الشتاء الشديد في صنعاء"، وبعد لحظات من دخوله غرفته، "سمعنا صراخ زوجته، فأسرعنا إلى غرفته فرأيناه متشنجاً، وعيناه مفتوحتان، حاولنا مساعدته لكنه لم يكن يستجب لنا".
وتضيف العبسي أنه كانت تخرج من فم محمد "رغوة شديدة لونها أصفر، ولم نستطع حمله من دون مساعدة، لأن جسمه أصبح أثقل، وحين وصلنا إلى المستشفى القريب من المنزل، كان جسده أزرق، أخبرَنا الطبيب أنه توفي".
شككت عائلة العبسي في أن تكون الوفاة طبيعية، فرفضت دفنه، وبالفعل، اتضح أن العبسي تعرض لعملية اغتيال مدروسة، إذ مات مسموماً بحسب تقرير الطبيب الشرعي الذي صدر في 2 فبراير/ شباط 2017، بعد إرسال عينة من دم محمد لفحصها في العاصمة الأردنية عمان، حيث أظهر الفحص احتواء دم الصحافي العبسي على مادة "كاربوكسي هيموغلوبين" بنسبة 67 في المائة، وهي كمية كافية للوفاة. 
هكذا اختارت عائلته الاتجاه نحو القضاء والدفع بتحقيق جنائي، وهو ما حصل. لكن في جريمة أخرى، اختفى ملف القضية في أروقة نيابة غرب الأمانة في صنعاء بعد ست سنوات من عملية الاغتيال، وتوقف التحقيق.
يؤكد أحد المحامين المشاركين في هيئة الدفاع (نتحفظ عن ذكر اسمه لأسباب أمنية) أنه والعائلة في عام 2022 أُبلغوا بشكل غير رسمي أن النيابة أصدرت قراراً بحفظ ملف القضية لعدم كفاية الأدلة، "وعلى أثره، تقدمنا بطلب لوكيل النيابة بتسليمنا نسخة من القرار كي يتسنى لنا اتخاذ إجراءات الطعن فيه، فإذا بنا نجد إفادات المختصين متناقضة بين من ينفي صدور أي قرار في القضية ومن يفيد بعدم وجود ملف القضية أصلاً".
ويقول إنّ السلطات القضائية تعاملت مع قضية العبسي بنوع من اللامبالاة، مشيراً إلى أن ملف القضية استمر في مرحلة جمع الاستدلالات في المباحث الجنائية ثلاث سنوات، وأن القضية خضعت للمماطلة في الإجراءات القانونية واستدعاء المتهمين الأولين للمثول أمامها، ويضيف أنه وبعد مرور ثلاث سنوات أخرى على إحالة الملف إلى النيابة، لم تتخذ أي إجراء، على الرغم من تقديم طلبات لاستيفاء بعض النواقص لعضو النيابة عبد السلام الظاهري الذي ترك ملف القضية في المنزل.
وفي إطار شرحه التطور القضائي للقضية، يقول "هناك إيقاف متعمد للقضية من السلطات نتيجة ضغوط من قبل بعض النافذين"، معتبراً واقعة اختفاء ملف قضية قتل في أروقة النيابة "سابقة خطيرة في تاريخ القضاء اليمني"... فبالإضافة إلى وجود أدلة دامغة تؤكد أن العبسي توفي مسموماً، كما أظهر فحص العينة في الأردن، يحتوي ملف القضية على خيوط تؤكد تورط أشخاص مقربين من جماعة الحوثي وردت أسماؤهم في الملف، "ولكن لم نستطع الوصول إليهم بسبب نفوذهم".
لكن لفهم هذه القضية جيداً، وسبب خوف محامين كثر من المرافعة والدفاع عن حق العبسي، لا بد من العودة إلى المسيرة الصحافية الاستقصائية لهذا الأخير. والقضايا المهمة التي حاول كشف أسرارها.
يقول الناشط الحقوقي عمار السوائي، وهو أحد أصدقاء العبسي، لـ"العربي الجديد": "إن العبسي خلال عقد ونصف من حياته الصحافية ركز على موضوعين رئيسيين، هما: ملف الطاقة المباعة وملف النفط والغاز المسال، والأخير يعتبر ملف الصراع منذ سبعينيات القرن الماضي وإلى اليوم، وفي 2011، أضاف إلى قائمة اهتماماته ملف جرحى الثورة".
ويضيف السوائي: "إلى ما قبل اندلاع الحرب في أواخر2014، كان العبسي يشكل رعبًا لإحدى أهم شركات النفط والغاز في العالم: شركة توتال الفرنسية. لقد أنتج سلسلة من التقارير المعمقة حول صفقات فساد بين هذه الشركة ونافذين حكوميين في عهد النظام السابق، كما عمل على نشر ملفات تثبت تورط حكومة الرئيس اليمني السابق علي عيد الله صالح، إذ عقدت الحكومة حينها صفقة لبيع الغاز إلى حكومة كوريا الجنوبية بأسعار زهيدة مقابل امتيازات شخصية وعمولات، وفي العام 2010، أسَّس العبسي "التحالف الوطني لمناهضة صفقة الغاز المسال والصفقات المشبوهة".

ركز خلال مسيرته على موضوعين رئيسيين: ملف الطاقة المباعة وملف النفط والغاز المسال

في 2015، دخل قياديون من جماعة الحوثي لاعبين جدداً في قطاع النفط والغاز، فاستمر الصحافي محمد العبسي بتتبع فساد هذا القطاع، وسلط الضوء على استخدام النفط في سياسة اقتصاد الحرب لصالح الحوثيين. 
يشير تقرير لجنة الخبراء المعنية باليمن، المرفوع إلى رئيس مجلس الأمن الدولي بتاريخ 25 يناير/كانون الثاني 2019، إلى أن محمد العبسي كان يعمل على تحقيق حول امتلاك قيادات الحوثيين شركات نفطية عملاقة يجرى عبرها استيراد النفط، وأن العائدات تمثل مورداً ضخماً لهم.
وفي منتصف فبراير/شباط 2019، أفادت لجنة الخبراء المعنية باليمن، والتابعة لمجلس الأمن الدولي، بأنها لاحظت حدوث جريمة قتل، راح ضحيتها الصحافي محمد عبده العبسي، الذي كان يحقق في النشاط المالي لقيادات في الحوثيين.
يقول الصحافي فكري قاسم، عضو مجلس إدارة نقابة الصحافيين اليمنيين، لـ"العربي الحديد"، إن العبسي، قبل اغتياله، اتّجه لنشر موضوعات عن فساد الحوثيين في قطاع النفط وتأسيسهم السوق السوداء بعد اقتحامهم صنعاء في أواخر 2014.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

وأوضح قاسم أن الصحافي العبسي لم يكن مدركاً خطرَ تناوله موضوعات تمس الملف الاقتصادي لجماعة الحوثي، مؤكداً أن الراحل كان يعمل على تحقيقات حول تورط القيادي الحوثي الأبرز محمد عبد السلام في ملف فساد النفط في اليمن، وتوصل إلى العديد من الوثائق والمعلومات من شبكة مصادره الواسعة، من بينهم رجل الأعمال المستثمر في مجال النفط عمار توفيق عبد الرحيم.
 ويشير قاسم إلى أن العبسي كان يتواصل مع عمار توفيق ليمده ببعض الوثائق، وحين اعتقلت جماعة الحوثي رجل الأعمال، لم يكن العبسي في البداية يعلم بذلك، فاستمر بإرسال الرسائل التي كانت تذهب إلى الحوثيين، فاطلع الحوثيون على ما يريده الصحافي وما يخطط له وماهية تحقيقه المقبل. 
وبدأ العبسي يشعر بالخطر، فحاول التواصل مع عدد من أصدقائه الصحافيين، كما تقول، لـ"العربي الجديد"، الصحافية وداد البدوي، التي التقت العبسي في صنعاء، قبل اغتياله: "وجدته خائفاً حيث أخبرني أن المصدر الذي يمده بالمعلومات والوثائق تم اعتقاله، وأن الجهة التي اعتقلته اطلعت على الرسائل والاتصالات بينهما". وعقب ذلك، تلقى العبسي سلسلة من التهديدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعبر اتصالات مباشرة، وفي أحد الأيام، جرى تحطيم زجاج سيارته أمام منزله. التمس العبسي جدية تلك التهديدات، وتوقف عن النشر المباشر لوثائق الفساد في قطاع النفط عبر مدونته الشخصية، وبدأ يعمل على تسريبها عبر صحافيين وسياسيين خارج مناطق سيطرة جماعة الحوثي.

المساهمون