صبرا وشاتيلا مستعمرة جذام، المُقيم فيها والداخل إليها لن يخرجا منها سالِمَين، بل سيصابان بأمراضها، ويعانيان بؤس العيش فيها. هذا الإحساس يتسرّب من الشاشة إلى مُشاهِد وثائقي الأيرلنديَّين ستيفن جيرارد كيلي وغاري كين، "في ظلال بيروت" (2023)، ويظلّ ملازماً دواخله طويلاً، لشدّة ما يتركه من أثر موجع، لرؤية بشر يعيشون في عزلة عن محيطٍ نابذ إياهم، يترفّع حتّى عن الاعتراف بهم كظلٍّ كريه، لا يريدون المرور بجواره، أو القبول بوجوده بينهم، وبين أطراف مدينتهم بيروت. العزل موجع، يفاقم الشعور باللاانتماء والنبذ. المكوث 4 سنوات بين المقيمين في المكان، وتسجيل مقاطع يومية من حياتهم، يُجليان ذلك الشعور المُغذّي رغبة في الانكفاء.
مُفتتح الوثائقي ـ المعروض في قسم "رؤى البحر الأحمر"، في الدورة الـ3 (30 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 9 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"مهرجان البحر الأحمر السينمائي" ـ الذي يظهر فيه دمار هائل يُحدثه انفجار مرفأ بيروت لحظتها (4 أغسطس/آب 2020)، يُكرّس "المُفتتح" انفصالاً واقعاً بين المخيم والمدينة المنكوبة، بدلاً من تأكيد وحدة مصير مشترك يتقاسمه الجميع. الانفصال حاصل، ولن تشفع له الفواجع. هذا يتأكّد بالتفاصيل اليومية، المنقولة بعدسات كاميرا تحتار من تأخذ من السكّان ليكون عينة أو مثالاً على عيشٍ، يتقارب في مظهره وتفاصيله الجميع. سهولة الاختيار تعطي انطباعاً بأنّ صانِعَيه وجدا أمامهما، من دون عناء، فيضاً من حالات وكائنات، كلّ منها يصلح لأنْ يكون وحده موضوعاً وثائقياً. على العكس، ربما يدعو التشابه إلى التفكير سينمائياً بأنّ الأصعب كامنٌ في الاختيار والتفضيل بين القابعين في مستنقع المخيم.
لن يتوقّف "في ظلال بيروت" عند المجزرة التي ارتكبتها المليشيات اليمينية المسيحية، بمعونة الجيش الإسرائيلي (16 ـ 18 سبتمبر/أيلول 1982)، بحقّ الفلسطينيين المقيمين في صبرا وشاتيلا، ولا الحاصل فيه من تحوّلات سياسية، لأنّه غير معني بها كثيراً، وربما هذا ينقصه، ويحاول الهروب من مقاربته عبر توثيق الحاصل في المخيم بعد نحو 40 عاماً على وقوعه. لم يتغيّر الكثير في التركيبة السكانية للمخيّم. جاء إليه سوريون هاربون من بطش النظام، وزحف إليه فقراء لبنان، وفئات مهمَّشة منه، لا يقبل البيروتيّون المتحضّرون الأصلاء بوجودهم بينهم. المشهد المنقول من داخله يشي بتقلّبات الزمن والسياسة عليه. السياسي الغائب عن الصورة يُجيّره لصالحه عندما يريد، والزمن الحاضر بقوّة يجد فيه ما يصلح لترك آثاره المدمّرة عليه.
4 "نماذج" منه تكفي لتثبيت مشهده الآني، وهذا خيار صُنّاعه. أحمد، طفل سوري (8 سنوات) نازح إليه من بلده مع والدته وأخيه الأصغر، يُعزّز هجينته وقبوله بكلّ من يريد الاعتراف به مكاناً منبوذاً، يأوي من لا مأوى له، وبمن يقبل العيش بشروطه. وجود الطفل في شوارع المخيم ليل نهار، وبحثه عمّا يُمكن أنْ يكون رزقاً يُعيل به عائلته المعدمة، يُنبئان بمصيره المحتوم. عبد زياني، شاب لبناني خارج من السجن للتوّ، لا يجد خلاصاً من البطالة غير الذهاب إلى المخدرات. لن تشفع لوالدته توسّلاتها إليه بترك ما يهدّئ دواخله المضطربة. كلّ محاولاته الصادقة للتكيّف مع حياة أخرى جديدة، تمنع عنه العودة إلى السجن ثانية، تبدو عبثاً، فمصيره تقرّر في المكان الذي وجد نفسه فيه، والخروج منه بات مستحيلاً.
لا يفصل صانعا الوثائقي، بحدّة، الحيوات التي يراقبانها. يتركانها تتداخل فيما بينها أمام كاميراتهما، كما هي في الواقع. الإحساس بالقهر والفقر يقرّب الناس بعضهم من بعض، ويدفعهم جميعاً إلى الدخول في دوّاماته، كأنّهم كتلة بشرية حُكم عليها بالفناء.
قصة الصبية سناء، من عائلة كوجيج، تفيض تعبيراً عن وحدة مصير بائس. للتخلّص من عبء وجودها عليه، يقبل والدها تزويجها من شاب من المخيم. تقبل مُكرهة، وبعد حين تكتشف عيوبه واستحالة معاشرته طويلاً. تنتهي مركونة حالمة بفرصة عيش أحسن مع شاب سويّ، أفضل منه. تتقاسم والدتها أحزانها عليها مع جيرانها، آل ظاهر. ما عند العائلة الغجرية (الدوم) من هَمّ على طفلتهم يكفيها، والطفلة مُصابة بمرض جلدي نادر، يمنع نموّ جسدها. مشهد الطفلة مؤلم، والأكثر إيلاماً فيه حرمان عائلتها من حقّ مراجعة المشافي الحكومية. هذا "الترف" لا يشمل الغجر والخارجين عن مواصفات المواطنة اللبنانية الأصيلة. مشهد موت الطفلة مُفجع. الحزن عليها يفضي إلى غضبٍ مكتوم في النفوس.
كلّ تلك الحيوات ومراراتها يجمعها نصٌّ وثائقي بارع، يستقصي واقعاً مسكوتاً عنه، ويفضح انتهاكاً لحقوق ولمقوّمات وجود بشري، لا أثر له في المكان الذي يُسمّى "صبرا وشاتيلا". مكان خارج الزمن، لا صلة له بالدولة ومؤسّساتها. إذا أرادت الدخول إليه يوماً، فلزيادة المتاعب لسكّانه.
هذا كلّه يترك في نفوس المقيمين فيه كراهية للخارج، وانعزالاً قهرياً يُنبئ بانفجارات مقبلة.