رحيل المؤرّخ السينمائي الفرنسي مارك فيرو (1924 ـ 2021) مؤلم ومُفجعٌ في أكثر من صعيدٍ، لكونه أحد العلامات الفكرية الأخيرة، التي طبعت النصف الثاني من القرن الـ20 على مستوى التأريخ الفكري للصورة السينمائية ومُتخيّلها، إلى جانب ريجيس دوبري وإدغار موران، رغم أنّ منطلقاتهما للتفكير في الظاهرة السينمائية مختلفة، فدوبري ـ في كتابه "موت الصورة وحياتها" ـ لم يتناول السينما إلاّ بشكل شحيح، وفق مسار فلسفي لتطوير مفهوم الصورة، منذ ما قبل الميلاد إلى اليوم؛ بينما اعتنى موران بالسينما من وجهة نظر فلسفية وتحليلية. أمّا فيرو، فمختلف كلّياً عنهما، لأنّ المعرفة التاريخية أساس نظري لمفهوم الكتابة لديه، ومنه تتبلور الرؤى والأفكار والمواقف، وتنحت وهجها في مواطن يباب، ظلّت في حكم اللامُفكّر به في الفكر المعاصر.
لكنّ أفكار مارك فيرو لم تجد طريقها في التاريخ الفرنسي المعاصر، لغاية الآن، بسبب ممانعة قويّة ودائمة لمؤرّخين ونقّاد وباحثين، تصدّوا لفكرة "الفيلم كوثيقة بصريّة"، إذْ وجدوها سابقة عن الزمن الذي يعيشون فيه، خاصّة أنّ وعيهم المعرفي الكلاسيكي لم يُخوِّل لهم سوى معرفة أنواع أخرى من الوثائق التاريخية، كالمعاهدات والاتفاقيات وسجّلات المحاكم واللقى الأثريّة.
هذا الرفض المُميت للوثائق البصريّة، كمصدر من مصادر التاريخ المعاصر، يُضمر في طيّاته اعترافاً هزلياً باستمرار المدرسة المنهجية أو الوضعية، كما تبلورت ملامحها مع سينيوبوس ولانغوا، الداعية إلى رفض المصادر التوثيقية، التي تخرج عن مفهوم الوثيقة الرسمية، وعدم انفتاح التاريخ على المعارف الأخرى من العلوم الإنسانية والاجتماعية، التي انفردت بها "مدرسة الحوليات"، بما أتاحته من خَرقٍ وتجديد على مستوى الكتابة التاريخية، وفتح آفاق جديدة على مستوى التفكير والتأريخ.
ربما يجد القارئ غرابةً في استعمال مصطلح "فكر" بدلاً من "تاريخ"، لكنّ هذا يُعتبر وعياً بالمُنطلق النظريّ المنهجيّ الذي مثّلته كتابات مارك فيرو، المنتمي فكرياً إلى "مدرسة الحوليات". هذه الأخيرة أدّت دوراً كبيراً في توسيع الوثيقة التاريخية، وانفتاحها على وثائق أخرى، كالكتابات المنقوشة، والمسكوكات، والأدب، والوثائق المادية واللامادية، والأرشيف البصري، المُتمثّل في فنون الصورة.
عُرف فيرو بأنّه أكثر المُؤرّخين المهتمين بالكتابة والنقد والتنظير والتوثيق للسينما، باعتبارها وثيقة تاريخية، يستطيع المُؤرّخ عبرها صوغ أفق معرفي، أو توثيق تاريخيّ، أو إعادة تناول قضايا وإشكالات في مُنجز سينمائي، أمام ما تزخر به الصورة السينمائية من آفاق، في التوثيق (وليس التأريخ)، وتخييل مواقف وأحاسيس وصُوَر في قالب سينمائيّ، يحفر في مكبوت المجتمعات المنسيّة، والمُنفلتة من قبضة الحضارة والحداثة والتحديث.
التعامل مع السينما كوثيقة تاريخية يجب أنْ يطبعه بعض الحذر، خاصّة أنّ الفيلم السينمائيّ لا يُحاكي الحدث بل يرسمه انطباعياً، ما يُعطي صورة عامّة عن مرحلة زمنية معينة، لكنّه لا يستطيع القبض على الدقائق الحرجة كلّها، التي تمرّ منها الواقعة التاريخية، لأنّ التاريخ كائنٌ زئبقيّ ومُتحوّل، لا يتأتى فهمه عند حدود اللحظة، بل يعتمد على مسار طويل كي ينضج الحدث في ذهن كل من يكتبه. هذا سمّاه بروديل مفهوم "المدّة الطويلة".
أثارت دعوة مارك فيرو في فرنسا جدلاً واسعاً لدى المؤرّخين ونقّاد السينما وكُتّاب السيناريو، لأنّهم وجدوا نوعاً من فانتازيا في آرائه عن إمكانية أنْ يغدو الفيلم وثيقة تاريخية، يستند إليها المُؤرّخ في كتابة التاريخ. علماً أنّ الذين سبقوه في "مدرسة الحوليات"، وما أعقبها من تحوّلات إبستمولوجية مع لوسيان فيبر ومارك بلوك وبروديل، دعوا إلى توسيع الوثيقة والعمل بها. إلاّ أنّ الأرشيف البصريّ بقي مهملاً، باستثناء إشارات قليلة، لم تكُن كافية لصوغ مشروعٍ فكريّ، قادر على فهم وتمثّل العلاقة بين الصورة والتاريخ، وبلورتها في الواقع، من خلال مونوغرافيات تاريخية، تقرأ تجارب فيلموغرافية فرنسية أو أميركية، اشتغلت على الذاكرة والأرشيف والتاريخ.
مع مارك فيرو، وتبنّيه هذه الإشكالية العويصة في التاريخ المعاصر، بات المؤرّخ التقليدي (الفقيه) يجد نفسه مشدوهاً كأبلهٍ أمام سيل الصُوَر المُتحرّكة، التي يستحيل القبض عليها وتفكيكها بنظرة المُؤرّخ، إنْ لم يُوسِّع أفق اشتغاله بين التاريخ والأنثروبولوجيا والفلسفة والسيميولوجيا، بفضل الطابع التركيبي الذي تختزنه الصُوَر السينمائية، وزخم الصُوَر وتعدّد منطلقاتها الجماليّة. مع ذلك، لم يستطع هذا الجدل المُثمر إثارة أيّ قلق في الكتابة التاريخية العربية، التي ظلّت ـ منذ أعوام طويلة ـ متقوقعة على الوثائق المادية، ولم تستطع أنْ تُجدّد آلياتها وأدواتها ومنطلقاتها المنهجية، لكتابة تاريخ جديد يتنصّل من الأيديولوجية والسلطة والرقابة، بالانفتاح على الصورة بتمثّلاتها الفنية كلّها.
لذا، أثار رحيل مارك فيرو حزناً عميقاً في كلّ من أحبّ كتاباته، والنظرة الثاقبة التي تبنّاها في البحث العلمي الفرنسي، مُدافعاً عن الفيلم وأهميّته كوثيقة بصرية. علماً أنّ نداءه هذا لم يلقَ إقبالاً كبيراً في فرنسا نفسها، فالقارئ لا يعثر على دراسة واحدة في الموضوع، باستثناء التفكير الفلسفي، الذي انشغل باكراً بمفهوم الصورة وتمثّلاتها المختلفة، مع جيل دولوز وميرلوبونتي مثلاً. لكنّ المقاربة التاريخية للسينما ظلّت محتشمة، وإنْ وُجدت فهي ترتبط ارتباطاً عضوياً بالشقّ النظريّ، بما فيها كتابات مارك فيرو.
هنا، تكمن إشكالية وجوهر العلاقة بين التاريخ والسينما، خاصّة في ذهن من يعتبر أنّ السينما وسيلة لـ"التأريخ"، بتخيّلها التاريخ، والعمل على التقاط تفاصيل ونتوءات منه من دون أنْ تُؤرّخه، فـ"تأريخه" سينمائياً عملية صعبة وشبه مستحيلة، بسبب الاصطدام عادةً بمفهوم التخييل، العنصر المُوسِّس للعملية السينمائية، وفي الوقت نفسه، عنصر مُضاد ومُناقض للكتابة التاريخية، بتقريريتها وعلميّتها.
غالبية الآراء، التي تناولت العلاقة بالفحص والنقد، اقتصرت على البعد النظري، فظلّت قاصرة، تقف عند السطح، ولا تستوعب أنّ الصورة السينمائية أشبه بنهر متجدّد ودائم المكر والجريان، يتقاطع في تضاريسه الواقعيّ بالتخييلي، والغرائبي بالتاريخي.