مشهدان يُعبّران، أكثر من غيرهما، عن روح الرؤية التي طبعت سينما الكوريغراف والمخرج السينمائي المغربي لحسن زينون، الذي رحل في 16 يناير/كانون الثاني 2024، بعد تعرّضه لغيبوبة، إثر سكتة دماغية مباغتة:
1-) نوافذ تنفتح تباعاً بعد الكاميرا، التي تؤطر آثاراً تركها مرور البيانو على ممرّ الدرج الضيق، بينما تنبعث مقطوعة لفريدريك شوبان، من عزف الشاب الذي نجح أخيراً في توطيد الآلة العظيمة وسط البهو، وبالتالي التحرّر من سلطوية الأب، ورفضه المرضي للفن، في "بيانو" (2002)، الفيلم القصير الثاني لزينون، أكثر أعماله تأثّراً بسيرته الذاتية. بلاغةٌ حول قدرة الموسيقى على إشراع أبواب الممكن على اتّساعها، وإطلاق الطاقات.
2-) مشهدٌ ثانٍ مَنح السينما المغربية أحد أجمل ملصقاتها، من "عود الورد أو الجمال الذي ذرته الرياح" (2007)، أول روائي طويل له، حين تصعد الشابة المستعبَدة برفقة طبيبها (كلّ واحد منهما متّشح بالبياض) درجاً فسيحاً وشاهقاً، باتجاه مستشفى الاضطرابات العقلية، كأنّ كلّ وجهة ـ تنأى بالإنسان عن جحيم الاضطهاد والقهر ـ تسمو به بالضرورة. ولعلّ عزف عود الورد أمام جمهور من المضطربين عقلياً (في تقاطع لافت للانتباه، ودالٍّ بتزامنه مع نهاية رائعة المخرج الجزائري رابح عامر زعيمش، "بلاد نمبر وان"، 2006) يقول كلّ شيء عن دور الفن في تحرير المرأة من عقال الذكورية، والحمولة الإنسانية المقترنة بالثقافة والفنون في عينيّ زينون، وحقّ الجميع في الولوج إلى منافعهما الروحية والعقلية.
هذه معركةٌ نذر الراحل لها نفسه، ودفع لقاء ذلك ثمناً غالياً في محطّات فاصلة من حياته، كما يروي في كتاب مذكّراته "الحلم المحظور" ("منشورات مها"، 2021). انطلاقاً من معاناته فرض رغبته في تعلّم الرقص، منذ أنْ تنامت إلى مسامعه نغمات بيانو مقبلة من نافذة المعهد الموسيقي، بينما كان يتجوّل وسط الدار البيضاء، بعيداً عن هوامش "الحي المحمّدي"، حيث وُلد (14 سبتمبر/أيلول 1944) وترعرع في أجواء زاخرة بالحياة الصاخبة، وفنون العزف والرقص والغناء، التي حملتها معها عائلات مغربية، نزحت من مختلف أنحاء المغرب، بحثاً عن ظروف عيش أفضل، ما ساهم في إغناء ثقافته الشعبية. بعدها، وجد زينون في بلجيكا ملجأً لتفتّق موهبته في الرقص، وتسلّق مراتب التألّق، إلى حصوله على مرتبة Danceur étoile في "فرقة الباليه الكلاسيكي"، لـ"المعهد الملكي" في "والوني"، ما أهّله لاحقاً ليشتغل ككوريغراف لأفلامٍ سينمائية مهمة صُوّرت في المغرب، كـ"أيام شهرزاد الجميلة" (1982) لمصطفى الدرقاوي، و"الإغواء الأخير للمسيح" (1988) لمارتن سكورسيزي، و"السماء الواقية" (1990) لبرناردو برتولوتشي، و"لعنة الفرعون" (1996) لسهيل بنبركة.
عاد لحسن زينون إلى المغرب تدريجياً، بين سبعينيات القرن الـ20 وثمانينياته، ما يدلّ على الإشارات المتذبذبة والمتناقضة التي بعث بها إليه وطنٌ، يتأرجح بين قوى المحافظة، وكلّ ما تحيل إليه من تحجّر ديني واستبداد سياسي، وتيار العصرنة، بحمولته التحرّرية والمتمرّدة على التقاليد الرجعية، وعقلية التحكّم. ولعلّ الحدث الذي يركّز هذا التوجه، مرخياً بظلاله الثقيلة على النصف الثاني من حياة الفنان، كان حين استُدعي على عجل من مدريد، عام 1986، لتقديم عرض من 7 لوحات فنية، تمزج الرقص والموسيقى الشعبية المغربية بروح مُستلهَمة من الرقص المعاصر، لاقى سابقاً نجاحاً كبيراً في "مسرح محمد الخامس"، لكنْ أمام نظر الحسن الثاني في القصر الملكي بالرباط، هذه المرّة. ما إن انطلق العرض، حتى تملّك الغضب الملك الراحل، المُصرّ على الحفاظ على الطابع الأصيل للتراث المغربي من كلّ تحوير وتغيير، فأوقف الفرقة، واستدعى زينون ليوبّخه بشدّة، مُحظّراً إياه بلهجة مهدِّدة أيّ "مسٍّ بالتراث الشعبي المغربي" في المستقبل.
بغض النظر عن انعكاساته النفسية الآنية المدمّرة، ترك هذا الحدث آثاراً وخيمة في مسار الفنان، وتوقه إلى تطوير ثقافة الرقص المعاصر في المغرب. في السنوات الأخيرة، سعى إلى الشفاء من ترسّبات هذه الفترة، عبر تمثّلها في سيرته الذاتية، في فيلمٍ سينمائي طويل، تدلّ كلّ تفاصيله الواردة في المذكّرات، أو حين يحكيها في لقاءاته التقديمية بعينين لامعتين، وقدرة مذهلة على زرع الترقّب وشدّ حبال التوتر، على أنّنا إزاء سيناريو بهامش درامي وجمالي مثير للاهتمام. لكنْ، يبدو أنّ "حرّاس المعبد" لا يزالون يناكفون كلّ محاولة حقيقية وجريئة لمصالحة حقيقية مع الماضي، وتجاوز عثراته.
انبرى زينون سابقاً على بقعة قاتمة من تاريخ المغرب، في فيلمه القصير "عثرة" (2003)، الذي يتطرّق بجرأة شكلية كبيرة إلى معركة المناضِلَين إيفلين السرفاتي وشقيقها أبراهام، اللّذين نفاهما "الاستعماريّين"، كما سمّاهم في الـ"جينريك"، عبر جمالية الكناية (Métonymie)، التي تركّز على أقدام الشخصيات، وشريط صوتي غني بالإيحاءات، ما يمنح المشاهد فسحة التخيّل والامتلاء بشعور الاضطهاد والخوف، الذي يخلقه القمع والتعسّف في النفوس.
بينما تسلّح، في شريطه القصير "الصّمت" (2001)، ببلاغة المغالاة (Hyperbole)، والقدرات التشخيصية الكبيرة للراحل محمد سعيد عفيفي، ليقول كلّ أشكال العنف المعنوي، الذي تمارسه المؤسّسات الرجعية على الفرد، في صورة تلاميذ يتعرّضون للضرب المبرح على يدي أستاذ سادي الطباع، لا يتحرّرون من سطوته إلاّ بتخيّل مباراة ملاكمة دامية الوطيس. مشاركة سعيد عفيفي في "عود الورد"، إلى جانب ممثلين لامعين، كحسن الصقلي وثريا جبران ومحمد مفتاح وسناء العلوي وحنان زهدي وعمر السيد وفاطمة عاطف، تضعنا أمام عقد فاخر من الممثلين قلّ نظيره في السينما المغربية، ما يوضح الأهمية القصوى التي كان زينون يوليها للـ"كاستينغ"، لاختيار ممثلين قادرين على تجسيد رؤيته لشخصياته.
أما "موشومة" (2011)، ثاني روائي طويل له، مع فاطمة العياشي، الممثلة الرقيقة، في دور البطولة، وإسماعيل أبو القناطر (كتبه زينون مع الناقد الراحل محمد سكري)، فيتناول من منظور مختلف، بفضل تبئير مرآوي ونوع التحقيق البوليسي في جريمة قتل، قضية حرية المرأة، من خلال فنّ غير مطروق، الوشم، في التقاليد الأمازيغية.
رغم عدم التزامه قواعد النوع، كالتشويق وخلط المسارات، تتخلّل "موشومة" مشاهد محكمة الحوار، تنزّه الوشم عن البواعث التزيينية الصرفة، لتسمو به إلى مرتبة مفتاح لتملك الجسد: "لوشام غطا كيعري الذات، علامة مكتوبة مغطية بكلام ساكت وبْيض"، تقول راوية في دور تاشيبانيت. عملٌ أسيء فهمه من متخصّصي الحكم على الأفلام انطلاقاً من إعلاناتها التشويقية، متذرّعين بحماية الأخلاق العامة، مع أن لا أحد نصّبهم على ذلك، ولا شيء انطلاقاً من قاموسهم وأخلاقهم يرشّحهم إليه، متناسين أنّ القبح وحده يُهدّد الذوق العام وكلّ الأخلاقيات، لا جسد امرأة جميلة، كما يدّعون ويتوهّمون.
يُستهلّ "موشومة" بمشهد تصفّح الباحث لسيناريو فيلم يودّ إنجازه، عن "حياة وأسطورة مريريدة"، في طائرة محلّقة. وآخر مشاهده هبوط الطائرة نفسها على المدرج. إشارة ذكية إلى أنّ الفيلم (رغم نواقصه) يأتي بين دفّتي لحظة ارتقاء فكري لا يمكن الاستئناس بها، إلاّ إذا اختار المتلقي الترفّع عن القراءات السطحية والمتشنّجة. لكنْ، هناك من يفضّلون الركون إلى قارعة مدارج الإقلاع، على التحليق بحرية في الأعالي. هذا حذّر منه الفقيد لحسن زينون منذ الجملة الافتتاحية لفيلمه القصير "بيانو"، المقتبسة عن هيكتور بيرليوز، التي يمكن اعتبارها أهمّ وصاياه: "الركون أشرس الأعداء".