استمع إلى الملخص
- **تعاونات فنية متنوعة:** تعاونت مع مخرجين بارزين مثل وودي آلن، بول شرايدر، وجيم جارموش، مما ساهم في تطوير مهاراتها التمثيلية وتقديم أداء متنوع.
- **تميز بالأصالة والعفوية:** تميزت بقدرتها على دمج العفوية والصدق في أدائها، مما جعلها تتفوق في تجسيد الشخصيات بواقعية وحرفية عالية، وحظيت بتقدير كبير في السينما المستقلة الأميركية.
ليس سهلاً أنْ يُكتب عن راحلةٍ لها في السينما أعوام مديدة وأفلام كثيرة، وبعض تلك الأفلام علامات فارقة في التاريخ الطويل للفن السابع. الاختزال صعبٌ، وتكثيف نصّ الوداع يحتاج إلى مهارةٍ. لكنّ رحيل الأميركية جينا رولاندز المليئة بـ"سيول الحب" (أدريان غومبو، Les Echos الفرنسية، 15 أغسطس/آب 2024) مُثير لكتابةٍ تحاول ردم هوّة بين تاريخ حافل بإنجازات وحكايات (والتاريخ هذا مزيج ذاتيّ بعام)، وصعوبة الاختزال. فرحيلها حاصلٌ بعد أقلّ من شهرين على احتفالها بعيد ميلادها الـ94، وهذا وحده كافٍ لتبيان صعوبة كتابةٍ كهذه.
عمرٌ طويل، للتمثيل السينمائي فيه مكانة بارزة، مع أنّ لها أدواراً أخرى في مسلسلات وأفلامٍ تلفزيونية. عمرٌ يعاين أحوال عالمٍ ومهنة وحياة، والنجومية فيه ساطعةٌ، وثقل الأيام ضاغطٌ، ما يعني أنّ لعزلةٍ، أو لما يُشبهها، أولوية. محاولة البحث عن آخر فيلمٍ سينمائي لها تقول إنّ "ستة دروس رقص في ستة أسابيع" لآرثر آلان سايدلمان آخر فيلمٍ تمثّل فيه، وهذا حاصلٌ عام 2014. أي أنّ مشاركتها التمثيلية تلك متزامنةٌ وبلوغها 84 عاماً، ما يؤكّد أنّ الإصرار على العيش، سينمائياً، أهمّ من كلّ تفكيرٍ باعتزال، وفي الوقت نفسه يُشير إلى أنّ "الاختفاء" من المشهد السينمائي يُنبِّه إلى أنّ عشرة أعوام تمتدّ بين الفيلم الأخير ولحظة الرحيل.
والعمر الطويل يقول أيضاً إنّ عيشاً في عالمٍ متقلّب باستمرار، وبعض التقلّبات حروبٌ وانهيارات، إلى إنجازات مختلفة، لن يكون مُريحاً، مع أنّ تفكيراً آخر يقول إن جينا رولاندز غارقةٌ في مهنتها ونجوميتها، وفي عالمٍ تصنعه المهنة والنجومية. الكتابة هنا تصطدم بضرورة التنقيب في سيرةٍ غير محصورة بمهنة ونجومية، ففي هذا العالم نفسه لا مكان لخصوصيةٍ، والعيون مفتوحة على أكثر من اتّساعها.
لكنّ الكتابة في رحيل جينا رولاندز "النجمة الأكثر توهّجاً وتألّقاً في السينما المستقلّة الأميركية" (الناقد البريطاني بيتر برادْشاو، "ذا غارديان"، 15 أغسطس/آب 2024)، بعد وقت قليل على شيوع نبأ الوفاة، تكتفي بمحاولة استعادة شيءٍ من تاريخ سينمائي مكتوب بصُورٍ تعكس مرارات وخراباً وأهوالاً، وتُفكّك علاقات وانفعالات، وتتعمّق في مسارات ومصائر. تذكّر "غلوريا" (1980)، لجون كاسافيتس، أو "وجوه" (1968)، للمخرج نفسه، يُفترض به ألا يُنسي عناوين أخرى لأفلامٍ يُخرجها كاسافيتس أيضاً، ما يدعو إلى ضرورة مقاربةٍ نقدية هادئة لعلاقتها به، التي تبدأ بـ"ظلال (Shadows)" عام 1959. فالفيلمان ("وجوه" و"غلوريا") يُعتبران من كلاسيكيات السينما الأميركية، ومعهما هناك "طفلٌ ينتظر" (1963)، و"مينّي وموسْكوفيتز" (1971)، وA Woman Under The Influence المُنجز عام 1974، وLove Streams بعد عشرة أعوام.
لذا، أيكون لكاسافيتس دورٌ أساسي في تشكيل جوهر تمثيلها وصقله، ما يجعل حِرفيّتها، المتجدّدة فيلماً تلو آخر (ليس بالضرورة أفلامها كلّها)، تساهم في صُنع نجوميّة لا تخبو، رغم ابتعادٍ واضحٍ عن واجهة مشهدٍ، لها فيهما (الواجهة والمشهد) مكانةٌ ثابتة؟ السؤال منبثقٌ من أنّ المخرج مُرافقٌ لها منذ بداياتها، إلى ما قبل رحيله بأعوامٍ قليلة (1989). هذا غير عابر. فسبعة أفلامٌ، بعضها مساهمٌ في خطواتها التمثيلية الأولى، مع مخرجٍ أسلوبه مغاير في صُنع صورة سينمائية أميركية مُجدِّدة، هذه الأفلام السبعة كفيلةٌ بتأسيس عمليّ لتمثيلٍ يخترق الأداء كصُنعة، كي يجعل التمثيل واقعاً.
ما المُميّز في ممثلةٍ تصفها "لوموند" الفرنسية (15 أغسطس/آب 2024)، بـ"الممثلة الأميركية الأسطورية"، تجهد في إيجاد معادلات تُقلِّص كلّ مسافةٍ بين واقع وتمثيل؟ أميل إلى اعتبار المُميّز عفويةً وصدقاً أكثر من مهنيّة وتمرين، مع أنّ التمعّن في هذه المفردات الأربع تكشف تكاملاً بينها. لكنّ المقصود بالعفوية والصدق يتمثّل بتمكّن رولاندز من جعلهما معبراً إلى مهنيّة تبلغ الحِرفية بفضل التمرين والمثابرة. وللأخيرة (المثابرة) دورٌ، إذْ إنّ التمثيل في أفلامٍ متفاوتة المستويات تمرينٌ يُضيف إلى الصدق والعفوية حِرفيّة مهنيّة مطلوبة. التنويع إضافة، والتعاون مع مخرجين غير متشابهين أساسيّ في مهنةٍ متطلّبة حدّ الإرهاق، ما يؤدّي بالممثلة إلى خيارات غير سوية كلّها، والبراعة محتاجةٌ أحياناً إلى اشتغال دائم، وإنْ تكن أفلامٌ عدّة عادية للغاية.
إلى كاسافيتس، هناك وودي آلن وبول شرايدر وبول مازورسكي وجيم جارموش وغيرهم. هناك أيضاً تجربة أخرى، تتمثّل باشتغالها مع نِك كاسافيتس، ابن جون. اختلاف أسلوب الإخراج بينهما لن يكون عائقاً أمام جينا رولاندز في اختباراتها، مع أنّ لنِك مساراً غير بالغٍ جمالية اللمسة البصرية التي لجون. لكنّ الأهمّ كامنٌ فيها كممثلة: إجادة تخزين الاختبارات، بما في الاختبارات من أدوات تُتيح، ولو أحياناً، إمكانية تقدّمٍ إلى أمام في كيفية صُنع المُعادِل التمثيلي لشخصيةٍ، ستكون حقيقية، أو ربما سينمائية لكنّها تقترب من الحقيقيّ البشري.
عام 1999، يُنجز سيدني لوميت نسخة جديدة من "غلوريا"، مع شارون ستون. براعة المخرج في اشتغالاته غير متمكّنةٍ من إيصال الممثلة إلى مرتبةٍ تليق بالنصّ الأصلي. للممثلة حضورٌ، وأدوار قليلةٌ لها تشي بجمالية أداء. لكنّ المقارنة بينها وبين جينا رولاندز مُسيء إلى الراحلة، وغير لائقٍ بتجربتها، المختلفة كلّياً عن تجربة غلوريا سوانْسِن. هذا يدلّ غالباً على أنّ النُسخ الجديدة غير قادرة على ابتكار الأجمل من الأصل، وإنْ يكن المخرج/المخرجة بارعٌ في اشتغاله، والممثل/الممثلة رائع الأداء.