نزلنا في المطار الصغير في مدينة مالقا MALAGA الإسبانية، أنا وزوجي وولداي. إجازتنا قصيرة وهدفنا واضح: مدينة غرناطة، وقصر الحمرا تحديداً. في آخر حرم المطار مكتب لتأجير السيارات، اخترنا سيارة صغيرة وأعطى زوجي بطاقته الائتمانية إلى الموظفة. بعد محاولتين فاشلتين لسحب المبلغ أخرجتُ بطاقتي، ففشلت أيضاً!
أشارت الموظفة إلى الشارع المقابل حيث توجد آلتان لسحب الأموال. خرج زوجي وانتظرت مع ابنتي الصغيرة والحقائب. من خلف الزجاج راقبته يتنقل بتوتّر بين المصرفين والبطاقتين.. ثم يعود رافعاً يديه باستسلام: "الصرّاف الآلي ينصحنا بمراجعة البنك في بيروت، المشكلة هناك".
الكارثة أنّ مصرفنا مغلق لأربعة أيام بسبب عيد الأضحى. وهي المناسبة التي جعلتنا "نهرب" من بيروت إلى إسبانيا. من محفظته وحقيبتي جمعنا ما يقارب $300 وارتأينا أنّه من الأفضل أن نترك السيارة ونأخذ الباص إلى غرناطة.
أوصلنا التاكسي الى محطة الباص وحاسبنا السائق وفق العداد.. هذا الذي كنّا نراقبه كما لو نتمنّى منه أن "يلطف" بإفلاسنا المفاجئ. لكنّه قال إنّه يجب علينا دفع مبلغ إضافي بسبب الحقائب... فاشترينا البطاقات وجلسنا ننتظر محبطين على أحد مقاعد المحطة.
فجأة تبادلنا النظرات: نحن في مواجهة عدد من آلات سحب الأموال! وقفنا معاً، لكنّ زوجي قال بحزم: "إبقِ مع الصغيرة والأغراض". غير أنّ مشهد المطار تكرّر، وبيأس مضاعف.
في الباص كانت الرحلة إلى غرناطة كئيبة. فقد حلّ علينا التعب والجوع وغروب الشمس. إضافة إلى بكاء ابنتنا التي أهملناها.
في الباص كانت الرحلة إلى غرناطة كئيبة. فقد حلّ علينا التعب والجوع وغروب الشمس. إضافة إلى بكاء ابنتنا التي أهملناها.
وصلنا الى غرناطة. صرنا في الفندق حيث دفعنا ثمن إقامتنا مسبقاً.
في الغرفة حسبنا مالنا الذي تناقص. ولمواجهة مأزقنا بأقلّ قدر من الإحباط، قال زوجي ممازحاً: "بما تبقّى معنا من مال لن نستطيع دخول قصر الحمرا، سنزور حيّ البائسين فقط، فهو مجاني ومناسب لوضعنا".
وأرخى بجسده المتعب على السرير. أجبته مبتسمة: "إبكِ visa مُضَاعة مثل النساء، لم تتمكّن من ملئها مثل الرجال"، وانفجرنا ضحكاً.
جملتي أردتها على وزن الجملة الشبيهة والأشهر، بحسب الأسطورة، يوم 2 يناير/ كانون الثاني 1492م. هناك على التلة التي ما زالت تعرف بـ"زفرة العربي الأخيرة" وقف الملك أبو عبد الله محمد الثاني عشر، آخر ملوك الأندلس المسلمين، ليلقي النظرة الأخيرة على غرناطة.. فدمعت عيناه، لتعاجله والدته عائشة الحرّة بجملتها الشهيرة: "إبكِ ملكا مُضَاعاً مثل النساء، لم تحافظ عليه مثل الرجال".
أمَّا حي البائسين الذي يقع على سفح تلّ قصر الحمرا فقد سكنه فقراء غرناطة الإسلامية، الذين غالباً ما تمرَّدوا على ملوكها، ثم من هُجِّر تباعاً من العرب والمسلمين إثر تساقط المدن الاسلامية في يد الإسبان.
نزلنا إلى مطعم الفندق. وقبل أن نطلب الطعام طلبنا من النادل أن يجرّب الفيزا، فلم يفلح في سحب المال منها.. فتركنا الفندق وخرجنا نبحث عن مطعم وجبات سريعة أقلّ كلفة. لحق بنا النادل مشفقاً علينا: "يمكن أن نطعم الصغيرة مجاناً، فقط الصغيرة". فشعرت بالخجل الشديد وشكرته بلطف.
كانت الساعة 11:30 ليلاً، المطاعم مقفلة والشوارع خاوية كمعدتنا، باردة وكئيبة مثلنا. قرّرنا أن نعود أدراجنا على "أنغام" بكاء صغيرتنا الجائعة وأجواء الشعر العربي الباكي ضياع الأندلس.
لكن، في آخر الشارع لمحنا مصرفاً، نظرت الى الساعة وقد تجاوزت 12 ليلاً، قلت في سرّي: "قد يكون في نهاية هذا اليوم المشؤوم خلاصنا". وركضنا. أدخلنا البطاقة المصرفية، واخترنا أكبر مبلغ يمكننا الحصول عليه وضغطنا على أزراره...
مرَّت لحظات حسبتها، حينها، الأطول في حياتنا كلّها... ثم سمعت صوتاً ما زلت أطرب له حتّى اليوم، هو صوت تساقط الأوراق النقدية بعضها فوق بعض من ماكينة الصرّاف الآلي ATM.
طرنا فرحاً وتبادلنا القبل. عدنا إلى الفندق الذي أقفل مطعمه، لكنّنا طلبنا عشاءً فاخراً إلى غرفتنا، وهو يكون أغلى ثمناً من العشاء في المطعم. كان عشاءً ملوكيّاً فاخراً، كما لو أنّنا ننتقم من البؤس الذي كنّا عليه طوال ذلك النهار التاريخيِّ والليل البائس. كنّا مثل عائلة معدمة ربحت اللوتو فجأة.
في الأيام التالية زرنا غرناطة وقصر الحمرا وحيّ البائسين، لكن بوحي إضافيِّ من تجربتنا، وبإسقاطات خاصّة لا يمكن تجاوزها، عن الهزيمة والنصر، عن الفقر والثراء، وعن السفر والعيش بين الغرباء بلا دفء المال وأمانه.