من المثير دومًا معرفة أن هناك قنبلة في الغرفة، أو هذا على الأقل ما ينصح به ألفريد هيتشكوك صانعي السينما ومشاهديها. في فيلم جاستن كورزل الجديد، Nitram، نختبر صحة تلك المقولة الشهيرة لأحد أهم صناع تحف القرن المنصرم؛ القنبلة في الغرفة، لكن السؤال الأهم: متى تنفجر؟
ينكأ فيلم "نيترام" الجرح الأكبر في تاريخ أستراليا المعاصر؛ مذبحة بورت آرثر المروعة في ولاية تسمانيا عام 1996، التي ارتكبها مارتن براينت، حين أطلق النار على العامة في أحد المواقع السياحية، متسببًا بوفاة 35 شخصًا وجرح 23 آخرين؛ أكبر حصيلة منفردة لقتلى على يد شخص واحد حتى ذلك الوقت.
الأحداث معروفة، إذن، والنهاية المشؤومة لا مفر منها. إلا أن المخرج الأسترالي المثير للجدل جاستن كورزل، ومعه الكاتب شون غرانت، يبديان اهتمامًا أكبر بشخصية القاتل نفسه، لا بتصوير الجريمة المرتكبة وتفاصيلها الشنيعة.
يحكي الفيلم، من دون أدنى تكلف، قصة "الحياة اليومية" الكئيبة التي يعيشها نيترام (كيليب لاندري جونز)، شاب عشريني يعاني من مشاكل في الصحة العقلية، وعلاقته المضطربة بوالدته الصارمة (جودي ديفيس) ووالده العاطفي المتساهل (أنطوني لاباغليا)، ثم لقائه بوريثة صندوق اليانصيب الشهيرة، هيلين هارفي (إيسي ديفيس)، وصداقتهما الغريبة التي تنتهي بوفاة هيلين المفاجئة، يليها انتحار والده، وبقاء نيترام وحيدًا في منزل هيلين، الذي بات الآن ملكه إضافة إلى نصف مليون دولار نقدية، وصولًا إلى ارتكابه مجزرة إطلاق النار الجماعي في بورت آرثر، من دون سابق إنذار.
لم يكن من السهل على المخرج الأسترالي، المعروف عنه اهتمامه بموضوعة العنف الاجتماعي والنفسي، أن يقنع سكان ولايته تسمانيا، حيث يقيم، برغبته في تقديم فيلم عن حادثة ما زال كثير من سكان تلك الولاية يعاني من آثارها حتى يومنا هذا؛ إذ قوبل كورزل باستياء كبير حال إعلانه عن إنتاج الفيلم، خاصة من أهالي ضحايا المجزرة، الذين رأوا في إعادة إحياء الكارثة نكسًا للآلام من جهة، وتعظيمًا لشخصية القاتل وأسطرة لقضيته من جهة أخرى. ادعاءات واجهها المخرج بصلابة، مؤكدًا ضرورة تسليط الضوء على الشرور الخبيثة حتى لا تتكرر.
الترفيه ليس هو الهدف الأول لفيلم كورزل الجديد. ولهذا السبب، بالضبط، يخفي المخرج أي إشارات ترجعنا إلى الحادثة نفسها؛ فيتجنب ذكر أسماء المناطق والأماكن حيث وقعت الجريمة، ويطلق على بطله اسم نيترام (تهجئة معكوسة لاسم مارتن)، ويمتنع عن تصوير آثار المجزرة؛ فينفذ إطلاق النار بعيدًا عن الكاميرا، معيدًا إلى الأذهان دراما المسرح الأرسطي، وقوانينه التي تنص على ارتكاب الفعل العنيف خارج الخشبة، بهدف الحد من التورط العاطفي وتعزيز المحاكمة العقلية لدى المتلقي.
على ذات المنوال، لا يحاكي الفيلم الأفعال العنيفة، بل يبقيها في الخلفية، هادفًا إلى تفكيك عقلية المجرم، وليس إلقاء نظرة رومانسية على فعله المضطرب، واضعًا تساؤلًا مهمًا عن الفعل الإجرامي بوصفه مرادفًا للتمرد، أو وسيلة للرد على التنمر؛ فيبحث في أسباب ودوافع الفعل الإجرامي، لكنه لا يتخذها كمبررات لفعل القتل، نابذًا العقلية البالية التي تدعو إلى إيجاد كبش فداء في كل مجزرة.
الترفيه ليس هو الهدف الأول لفيلم كورزل الجديد
تضمحل مفردات الجاني والضحية في فيلم كورزل، لا وجود لجريمة يرتكبها شخص واحد (حتى لو أنها نفذت بيد شخص واحد)... الكل يتشارك قدرًا من المسؤولية؛ الأطباء غير المؤهلين، مقدمو الرعاية الجاهلين، قوانين الأسلحة التي يتلاعب بها تجارها؛ إذ يركز الفيلم في مشاهد عدة على مدى سهولة وصول نيترام للأسلحة النارية؛ فنرى والده يهديه بندقية صيد في صغره، ويبتاع هو بعد وفاة هيلين أسلحة نصف آلية من متجر في هوبارت. العلاقة التي تجمع بين نيترام وبندقيته تكاد لا تضاهى في قوتها أي علاقة أخرى في حياته، حبه للأسلحة وإطلاقها عند كل موجة غضب أو إحباط، تنذر بالكارثة حتى لمن لو يكن المشاهد على دراية بخلفية الفيلم الواقعية.
ومع كل ذلك الشغف بالأسلحة والمفرقعات النارية منذ الصغر، لا يصور كورزل شابًا عنيفًا يهوى التعذيب، بل على العكس؛ صانع المجزرة محب للحيوانات، ابن ودود، وصديق وفي. إذ لا تكمن مشكلة نيترام في تبلده العاطفي، بل في آلية تعبيره عن تلك العواطف غير المنتظمة والمعقدة، والتي حالما تتضخم داخله، يعبر عنها بفعل صادم وعنيف، فيضرب والده في واحد من أهم مشاهد الفيلم، بغية إجباره على الخروج من أزمة الاكتئاب النفسي التي وقع ضحيتها، مفسرًا فعله لوالدته: "هذا ما يجب عمله"، ويطلق النار على مسنين انتزعا بعرض سعر أفضل عقار حلم به والده طيلة حياته.
يسيء نيترام فهم طبيعة مشاعره، ويعجز تمامًا عن إدراك عواقب أفعاله، حتى يبدو أنه غافل تمامًا عن الأذى الذي يتسبب به لمن حوله، الأمر الذي تبين لاحقًا أنه ناجم عن امتلاكه وعي طفل في العاشرة من عمره، وذلك حسب تقارير السجن الخاصة به.
إن المشاكل النفسية غير المعالجة لدى نيترام، تجعل التعاطف معه ممكنًا إلى حد ما، إلا أن أداء كاليب المذهل، الذي فاز عنه بجائزة أفضل ممثل في مهرجان كان السينمائي لهذا العام، هو ما منح للشخصية أبعادًا أكثر تعقيدًا؛ إذ يصور أداء كاليب الهائل مزيجًا من المشاعر المتناقضة التي يفيض بها وجه نيترام؛ الألم والغضب، البراءة والأذية، الوعي الذاتي بالمشكلة وانعدام القدرة على السيطرة على الانفعالات أو الإحساس بالواقع على حد سواء.
غيّرت حادثة بورت آرثر اتفاقية السلاح الوطنية، ووضعت شروطًا محددة لحاملي رخص السلاح، ومع ذلك، يفيدنا الفيلم في نهايته أن عدد الأسلحة في أستراليا زاد اليوم عما كان عليه في عام 1996، الأمر الذي يفسر اختيار كورزل تلك القضية موضوعًا لعمله الجديد. لا يكتفي الفيلم بكونه نظرة فاحصة يلقيها صناع الفيلم على حادثة مروعة في تاريخ الإنسانية، بل يتعدى ذلك ليغدو دعوة لتفادي الكارثة قبل وقوعها من جديد.