فيلم "الشقراء"... مارلين مونرو كصرخة استغاثة

22 أكتوبر 2022
يتهرب الفيلم من إطلاق الأسماء على مسببي الأذى المزعومين في حياة مونرو (نتفليكس)
+ الخط -

يعيد المخرج الأسترالي، آندرو دومينيك، تخيل سيرة الممثلة والمغنية الأميركية الشهيرة، مارلين مونرو في فيلمه الجديد، "الشقراء" (Blonde)، المأخوذ عن رواية تحمل ذات العنوان، للكاتبة جويس كارول أوتيس، نُشرت في عام 1999.
لا يقدم الفيلم، كما الرواية الأصلية، سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق، بل ينطلق منها ليقدم تأويله الخاص عن حياة النجمة الأميركية التي لعبت دورها آنا دي آرماس (Ana de Armas)، وسط طاقم عمل يشمل كلًا من آدريان برودي (Adrien Brody)، وبوبي كانافيل (Bobby Cannavale)، وخافيير سامويل (Xavier Samuel) وجوليان نيكلسون (Julianne Nicholson).
عُرض "بلوند" لأول مرة في مهرجان البندقية السينمائي الدولي التاسع والسبعين، في 8 سبتمبر/أيلول الماضي، ثم انتقل إلى دور العرض في الولايات المتحدة في الـ16 من الشهر ذاته، ليعرض أخيرًا على منصة نتفليكس، في الـ28 من الشهر الماضي، متلقيًا العديد من الآراء المتباينة، استنكر معظمها تصوير شخصية مونرو غير الواقعي، واستباحة مآسيها الخاصة والمصاعب التي اعترضت مسيرتها الشخصية والمهنية، إلى حد دفع االبعض إلى وصفة بالمهين لإرث النجمة الراحلة وللنساء عمومًا.
يبدأ الفيلم بتصوير طفولة نورما جين، وهو اسم مونرو الحقيقي، في كنف والدتها غلاديس التي تعاني من اضطرابات نفسية شديدة، تدفعها إلى تعنيف ابنتها جسديًا ولومها على غياب الأب الحاضر طوال الفيلم على هيئة صورة مؤطرة تقدمها غلاديس لابنتها نورما جين، لتغدو تلك الصورة هاجس مارلين مونرو في المستقبل ودافعها الوحيد، كما يقترح الفيلم، للاستمرار.
ينتقل الفيلم عبر قفزة مونتاجية إلى أربعينيات القرن الماضي، حين انتشر اسم مارلين مونرو على أغلفة المجلات كعارضة أزياء صاعدة، ثم ينتقل إلى تصوير محاولاتها في اقتحام عالم التمثيل، وتعرضها للاعتداء الجنسي من قبل مدير الاستديو، ثم علاقتها الثلاثية مع كل من تشارلز "كاس" شابلن جونيور وإدوارد ج. "إدي" روبنسون جونيور، وحملها الأول من كاس، ثم إجهاضها وزواجها من الرياضي المعنف جو ديماجيو، ثم طلاقها منه وزواجها من الكاتب المسرحي آرثر ميللر، وصولًا إلى إجهاضها الثاني ووقوعها في نوبات غضب متكررة داخل مواقع التصوير، نتيجة تدهور حالتها النفسية وإدمانها على الكحول والمخدرات، وصولًا إلى رحيلها المؤسف نتيجة جرعة زائدة عن عمر يناهز الـ36.


كما يتضح من الحبكة، يركز الفيلم على الجانب العاطفي والنفسي من حياة النجمة. أمر كان من الممتع مشاهدته، لو أنه أُنجز على نحو عال من الحرفية والدقة، إلا أن الفيلم الجديد يقزّم صراعات النجمة الراحلة إلى حد بعيد، ويظهرها كطفلة تائهة ومغمورة غير قادرة على إدارة تفاصيل حياتها الشخصية، ومكبلة بشكل كلي بالمشاكل الأبوية التي تلاحقها باستمرار. فمن علاقاتها العاطفية المتعددة، وصولًا إلى أدوارها السينمائية والبيرسونا التي كرستها النجمة عن نفسها طوال مسيرتها الفنية، يحاول الفيلم إظهار حياة مونرو بأسرها كصرخة استغاثة، وجعلها مجرد ضحية للرجال الغائبين والمعنفين وللصناعة الترفيهية والصور النمطية التي أحاطت بالفتاة الشقراء المثيرة حينها، متلاعبًا بالتفاصيل الحقيقية حول حياتها، مضيفًا العديد من قصص التعنيف الأسري غير المؤكدة من قبل والدة مونرو، ومشهدي اغتصاب، أحدهما من قبل مدير استديو هوليوودي، والآخر يرتكبه رئيس الولايات المتحدة الأميركية بحق الممثلة، وعدة إجهاضات قسرية، إحداها تجريها مونرو خوفًا من وراثة جنينها لأمراض والدتها النفسية، ثم تتراجع قبل نهايته، لكن الأطباء يرفضون تركها. والثاني تتعثر فيه مونرو أثناء تقديم المشاريب على الشاطئ، إضافة إلى كثير وكثير من الدموع التي تذرفها الممثلة الشابة، من خلف قناع الشهرة المبتسم، في محاولة بائسة من قبل صناع الفيلم، لدراسة الحدود غير الواضحة بين المهني والشخصي في حياة العاملين في مجال الصناعة الترفيهية.
من المحتمل أن مارلين مونرو الحقيقية، قد عانت بالفعل من مآس مشابهة، وربما بجرعات أكثر عنفًا مما يزعم الفيلم تصويره، إلا أنها من المؤكد لم تكتف بالنحيب كما تفعل شخصيتها المتخيلة على مدار ثلاث ساعات، يُهمل من خلالها دور مارلين المحوري في الصناعة الترفيهية الأميركية خلال تلك الحقبة، وذكاؤها الصارخ، إلى جانب معرفتها الصلبة بالسياسة وطموحاتها المهنية غير المحدودة والتي توجتها مونرو بإنشاء شركة إنتاج خاصة بها في مرحلة لاحقة من حياتها.

لا يهتم فيلم "بلوند" بمونرو التي نجحت في الخلاص من لعنة الفقر وهجرة دور الأيتام إلى الأبد. ولا بالشابة التي درست الأدب في جامعة كاليفورنيا، وتحدت المجتمع عندما تحولت إلى ديانة مغايرة، بل يظهرها ضعيفة وهزيلة، لا تمتلك سوى الجنس والخضوع للدفاع عن نفسها، منادية لعشاقها وأزواجها بـ "بابا"، ليشرح كيف تطاردها صدمة الطفولة وغياب الأب بأبسط الأساليب وأكثرها ابتذالًا. 
يتهرب الفيلم من إطلاق الأسماء على أي من مسببي الأذى المزعومين في حياة مونرو أيضًا، فيشير إلى مدير الاستديو المتحرش باسم السيد z، وإلى الرئيس الأميركي الذي اغتصبها بالرئيس فقط، لكنه يشير إلى مونرو باسميها، الفني والحقيقي، وكذلك إلى والدتها غلاديس بوضوح، مشهرًا بها وبعائلتها دون الجميع، جاعلًا معاناتها المشروعة هي هويتها الوحيدة، ما دفع بعضهم إلى الاعتقاد بأن فيلم دومينيك الجديد يتغذى على "أوجاع المرأة الجميلة".

أمر شهدناه سابقًا عبر النسخ الفنية التي تروي قصة الأميرة ديانا مثلًا، معيدًا إنتاج ما يحاول انتقاده عبر الفيلم ذاته، خاصة تلك المشاهد التي يصورها دومينيك من داخل مهبل مارلين أثناء إجرائها عمليات الإجهاض القسرية، التي لا يقدم لها تحليلًا نفسيًا عميقًا، ولا يغوص في تبعاتها الحقيقية، وإنما يكتفي بتقديمها على هيئة كليشيهات ومشاهد مبتذلة وقاسية، تناهض الإجهاض وتثقل المرأة بذنبه، مثل مخاطبة الجنين لها من داخل رحمها ليلومها على التخلي عنه وقتله، أو التهيؤات العديدة التي تتراءى لمارلين، وفيها تحاول إنقاذ طفل رضيع من مبنى محترق. 
ينجح الفيلم في بعض نواحيه، مثل التأليف الموسيقي والتصوير السينمائي، كما يضم عددًا من الدلالات البصرية الجميلة والمؤثرة، كتحويل سرير مارلين إلى شلالات مائية، إشارة إلى فيلم مونرو "نياغرا" الذي اشتهرت به حينها. لكنه، مع ذلك، يلتقط جسد مونرو، ومن خلفه جسد آنا دي آرميس، من وجهة نظر ذكورية بحتة، فيتعمد إظهارها عارية الصدر في كثير من المشاهد، من دون أي مبرر درامي.
ومع أن الفيلم ينقل الصور الرقمية الثابتة إلى الحياة بدقة تستحق الإشادة بها، ويعيد إنتاج تفاصيلها اللونية والهندسية ببراعة عالية، إلا أنه يتلاعب ببعض الأزياء الشهيرة الخاصة بمارلين، مضيفًا إليها لمسة حداثية حتى تصبح أكثر جذبًا وانسجامًا مع ذائقة المتلقين المعاصرين، كالاستعاضة عن حمالة الصدر المدببة التي ميزت لباس النساء في تلك الحقبة، بأخرى مدورة تتناسب مع صيحات اليوم.
يقترح الفيلم أن مونرو، "البيرسونا" الاستعراضية لنورما جين، هي الأساس في تدهور صحة الممثلة النفسية، وأحد أهم محركات صراعاتها الداخلية، لكنه يفشل في التفريق بين هاتين الشخصيتين على مدار العمل، فتتحدث الممثلة دي آرميس طوال الوقت بصوت مزيف كذاك الذي تبنته مارلين أمام الكاميرات فقط، وتغالي في جنسنة Hypersexualization سلوكيات شخصيتها وطريقتها في الأكل والمشي وحتى الحزن، وهو ما كان على فيلم يدعي أنه صُنع لانتقاد التشييء الجنسي، أن يتجنبه بشكل كلي. 
أما التعاطف الذي ينبغي أن يشعر به المشاهد تجاه محن مونرو ومآسيها الشخصية، فسرعان ما ينقلب إلى شعور بالخدر لكثرة المشاهد المؤلمة والقاسية بلا أي هدف درامي واضح، خاصة أن الفيلم يركز على الإساءة نفسها، لا تبعاتها أو الآثار النفسية المترتبة عليها، وينسى في كثير من الأحيان أنه يتطرق إلى شخص حقيقي، ولو أنه يبتعد عن مفهوم السيرة الذاتية.  
في فيلم "بلوند"، تحتفي هوليوود مرة أخرى بشهدائها، لكنها تثبت من جديد أنه حتى الموت ذاته لن ينجي بعضهم من تكرار قصصهم واجترارها أملًا بفرصة ربح مناسبة.

المساهمون