فيلمٌ لبورفيداش: متتاليات سينمائية آسرة عن حياةٍ في جحيم

12 يناير 2024
أولزي (باتسوج أورْتْسِخ) في "أتمنّى أنْ أتحوّل إلى دبّ": معاندة القدر (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

كمَن يحيك قفطاناً مغربياً، أو يصنع سجادة عجمية، تُنجز زولجَرغال بورفيداش (منغوليا، 1990) أول روائي طويل، تُعنونه بـ"أتمنّى أنْ أتحوّل إلى دبٍّ" (2023)، يُعرض للمرّة الأولى دولياً في برنامج "نظرة ما"، في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/ أيار 2023) لمهرجان "كانّ" السينمائي، قبل أسابيع على مشاركته في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، في الدورة الـ6 (14 ـ 21 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"مهرجان الجونة السينمائي"، المُحتفلة (الدورة الـ6) بالممثل الأساسي، باتسوج أورتسيخ، بمنحه جائزة "نجمة الجونة لأفضل ممثل".

حياكة نصٍّ سينمائي كهذا حاصلةٌ بدقّة من يُنقِّب عن مخفيّ في عمق ذاتٍ، تبحث عن خلاصٍ، فيكون التمرّد خفراً، أو مواجهة هادئة، أو تأقلماً أو هروباً أو إكمالاً غير واضح لحياةٍ شبه معطّلة. فمنذ اللحظات الأولى، يتبيّن أنّ سرد ما يُرغَب في سرده يترافق وتكوين متتاليات سينمائية، ترتكز على تصوير (دَفانيام دَرْغِرْجَرْغال) يمسّ المخفيّ في روح وجسدٍ ومسام عيشٍ وعلاقات وأحلامٍ وخيبات، مع ميلٍ واضحٍ إلى إيجاد تناغم مؤثّر بين ضبابٍ وصقيع وألوان غامقة، في أمكنةٍ غير لائقة بعيشٍ عادي (ما يُشبه المخيّمات غير المجهّزة بأبسط أدوات عيشٍ كهذا)، وفي فضاءات مفتوحة على طبيعةٍ، تتكشّف تدريجياً عن قسوةٍ يصنعها بشرٌ، فالتلوّث سائدٌ، والحاجة إلى تدفئةٍ، في شتاء تصل درجة حرارته المئوية إلى 35 تحت الصفر، تتحوّل إلى جحيمٍ.

المتتاليات السينمائية تكتمل بتوليفٍ (ألكسندرا شتراوس) وتسجيل صوت (فيليب غْريفل)، يتداخلان في ذاك النسيج البصري المتسلِّل، بخفّةٍ مُحبَّبة وعمقٍ صادم، من نصٍّ (السيناريو لبورفيداش نفسها) مفتوحٍ على حكاياتٍ تروي وقائع، وعلى صُورٍ لحالات فردية، عن تفكّك وقهر وألمٍ، كما عن رغبةٍ في خلاص، وأملٍ في ثقبٍ قابلٍ لمنح فردٍ، على الأقلّ، إمكانية نجاةٍ مطلوبة. فأولزي (أورْتْسِخ) بارعٌ في علمٍ، ومنتبهون إليه يحرّضونه على مزيدٍ من براعةٍ لنيل منحة تُنقذه من بقاء في جوف الخراب والموت البطيء. لكنّ تفكّكاً يحصل، فالأم (غانْشيمِغ ساندَغْدُرج) متخلّية عنه وعن شقيقه وشقيقته، ما يجعله مسؤولاً عنهما، وعن تأمين حدٍّ أدنى من مأكل ومشرب وتدفئة.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

تتوزّع الحكايات على أفرادٍ وحالة. مُراهقٌ يواجِه أقسى تحدٍّ حياتي، وعائلة منهارة لغيابِ أبٍ وتخلّي أمّ، وبيئة موبوءة بتلوّث، والبرد قارس، والفحم وسيلة تدفئة، وسبب تلوّث، تقول بورفيداش إنّ "باتور" (مدينة تجري فيها تفاصيل الحكايات)، المُصابة به، تُعتَبر الأكثر تلوّثاً في العالم. كأنّ كلّ شيءٍ مبتور أو ناقص أو مانع. أمْ أنّ البَتْر غير مختلفٍ عن نقصان كلّ شيءٍ ومنع كلّ أحدٍ من خروجٍ آمن من خرابٍ، منفلشٍ في بيئة ونَفْسٍ فردية؟ لكنّ هذا كلّه ترجمة لواقع، والنهاية، رغم ملمح أملٍ ما، تبقى رهينة ذاك الخراب، وتلك البيئة الملوّثة، صانعة الخراب أيضاً.

أما زولجَرغال بورفيداش، ولها في السينما أفلام قصيرة عدّة، فتمنح فيلمها الروائي الطويل الأول هذا ("لو أستطيع السبات فقط"، ترجمة عربية للعنوان الإنكليزي المعتَمَد دولياً) ما تملكه من رؤية بصرية، وموقفٍ أخلاقي إزاء أزمةٍ، لن تجعلها "خطاباً ثورياً"، إذْ تكتفي بسردٍ يتوافق وحكاية واقعٍ بلغة سينمائية، تلتقط نبض الواقع نفسه، فترويه صوراً وحالاتٍ، في أمكنة عيشٍ بائسٍ، جاعلةً عدسة الكاميرا مرايا "توثِّق" حياةً في جحيمٍ، وتُعيد صُنع الحاصل بشفافية من يختبر عيشاً كهذا.

المساهمون