فيلمان من كازاخستان: واقعية عائلية مُصوّرة بمتعٍ سينمائية

30 ديسمبر 2022
قاسمبيك: جائزة "نتباك" للسينما الآسيوية في "مهرجان آوراسيا" عن "النار" (الموقع الإلكتروني)
+ الخط -

 

في العاصمة، تحاول عائلة، غادرت القرية مؤخّراً، الصمود. ما تعيشه ليس بؤساً، بل فقراً عاديّاً، يبدو أنْ لا مخرجَ له. يفتقد الجدُّ أمكنته، الجبل والطبيعة. يروي أساطير جميلة لأصغر حفيداته (10 أعوام). يُرهق الأبّ نفسه في وظيفة سائق توصيل الخبز بأجرٍ ضئيل. الأمّ تتمسّك بالآمال. لم تتخلَّ عن خطط المستقبل، حتى لو بدت غير قابلة للتحقّق: فَتْحُ متجر، إيجاد سكن أفضل. أما متابعة الابنة المُراهقة، الطالبة المُجدّة، للتعليم العالي، مهما كانت التكلفة، فهذا تأمل به الأسرة كلّها. المكان شقّة حزينة، بأثاثها وضيقها، وإطلالتها على طريق دائرية سريعة وضاجّة. الطعام رديء، لكنّه يُشبِع. الديون تتراكم، ولا وسيلة لوقف تراكمها. عندما يتقاضى الأب راتبه، يكتشف أنّه مُخفّضٌ، عقاباً على تأخيراته، بسبب الوقت الذي يمضيه لإيصال البنات إلى المدرسة في ازدحام المرور. يُسدّد جزءاً من الديون، والباقي لا ينفع إلّا لتراكم ديون جديدة لمتابعة العيش. لكنْ، إلى متى؟

"النار" (2021)، للشابّة الكازاخستانية ايجهان قاسمبيك (الفائزة بجوائز عدّة، آخرها جائزة "نتباك" للسينما الآسيوية، في "مهرجان آوراسيا" في آلماتي)، فيلمٌ اجتماعيّ بلا شك، لكنّ غايته لا تقتصر على وصف حساس ودقيق لوضع أسرة فقيرة وكريمة، في بلدٍ يُمكن فيه لثراء قلّة إعطاء انطباعٍ عن ازدهار. يبدو كذلك كأنّه فيلمٌ وثائقي جيّد، ليس من دون شيءٍ من ملل، لو لم تكن الشخصيات مُحبّبة وباعثة على التعاطف معها، والإحساس بمشاعرها. في الواقع، لا يمكن اختزال أيّ منها في نوع مُحدّد ونهائي وثابت في مواقفه. فكلّ شخصية، من دون أنْ تفقد تماسكها، تفاجئ في لحظة ما، أو موقف ما. مثلاً: الفتاة الجادّة تَحمَل من صديقها. في مواجهة هذا الكشف، تبدو الأم الحنونة والصابرة أكثر غضباً وثورة من الأب، الذي يرحّب بهذه المحنة الجديدة، كعادته، بصمتٍ مستسلم، فهي كغيرها.

الأب، الذي يبدو إلى هذه المرحلة سلبياً ومستقيلاً كأنّه غائب عن الحياة الأسرية، يُظهِر فجأة (بمساعدة قليلة من أمسيةٍ أمضاها مخموراً مع صديق) صفات كامنة فيه، وغير متوقّعة، وارتجالية وقتالية.

يتمّ هذا في ليلةٍ، عليه فيها إنقاذ صديقه المُصاب بنوبة قلبية. وحينها، سيكون قادراً على تحقيق الهدف بإرسال رجلي شرطة إلى المستشفى، بعد أنْ ضربهما، ثمّ يُحطّم وجه والد الصبي الذي كان سبب حمل ابنته. هذا الوالد، المتخم بنجاحه الاجتماعي، ينكر مسؤولية ابنه، ويعتقد أنّه قادرٌ على تحطيم الشابّة باحتقارها.

الشخصيات، التي تبدو حقيقية ومليئة بالحياة، مُرهقة للغاية، وفيها طاقة لا تنضب. رغم هذه المشكلات، لا تغيب الفكاهة أبداً عن السرد، ما يجنّب الفيلم الاجتماعي هذا شبهة الكآبة. المشهد الأخير يبدو تأكيداً على حيوية لا تنطفئ، ورغبة في الحياة مُشتعلة، رغم كلّ شيء: يرقص الأب بمفرده في المستودع، الذي يعمل فيه، من دون أنْ تكون هناك بادرة أمل، فلا مشكلة في طور الحل، بل كلّ شيء يُمكن أنْ يزداد سوءاً.

"تولبان" (2008) لسيرغي دفورتسيفوي (جوائز دولية عدّة، بينها جائزة "نظرة ما" في الدورة الـ61 لمهرجان "كانّ"، المُقامة بين 14 و25 مايو/ أيار 2008) ينتقل إلى عالمٍ مختلف تماماً. ففي مقابل مغادرة عائلة "النار" القرية الجبلية، يتشبثّ رعاة "تولبان" بالسهوب، رغم المصاعب كلّها. الشخصية المركزية شابٌ يعيش مع أخته وزوجها، وأولادهما الـ3، في خيامٍ، تتوسّط فضاءً شاسعاً من فراغ. هو يريد أنْ يكون راعياً، وأنْ يعيش في السهوب، وأنْ يُربّي قطيعه هناك. يتخيّل أنّ وضعه سيزدهر يوماً ما، بما يكفي لتركيب تلفاز في خيامه، وأيضاً قمر صناعي بـ"مئتي قناة". لكنّه يحتاج أولاً إلى زوجة، إذْ يستحيل عليه أنْ يقوم بمفرده بالمهمّة الشاقة، المتمثّلة في رعي قطيع. هناك امرأة واحدة فقط ليتزوجها، تُدعى تولبان، وتقيم على بعد كيلومترات عدّة. هذا الشاب البسيط والظريف يُغرم بفتاة لم يرها قبلاً. لسوء الحظّ، لا ترى تولبان الأمر مثله، فهي تريد الذهاب إلى المدينة.

رغم اختلاف القصّتين، لا يخلو الفيلمان من تشابهٍ، يتمثّل بالسمة العائلية التي تسودهما، في واقعية التصوير، إذْ صُوّرت السهوب في "تولبان" بقدر من الواقعية يُماثل تلك التي صُوِّرت بها المدينة في "النار". ليست سهوباً للسائحين الباحثين عن مغامرات غريبة، أو تخيّلات رعوية. هنا ألوان باهتة، وأفق مسطح، وجفاف يقتل الأغنام، وغيوم من غبار تثيرها الرياح والقطعان. هنا العمل شاق باستمرار، والربح ضئيل جداً، والحيوانات ليست وديعة كما يتخيّلها سكان المدينة، فالخراف كريهة الرائحة، والأحصنة متمرّدة، والجمال تعضّ.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

بالإضافة إلى الواقعية المشتركة بين الفيلمين، هناك وحدة الأسرة، مركز وجودٍ يصمد فقط لأنّ العائلة تتماسك. هنا وهناك، المرأة، زوجةٌ وأمٌّ وأختٌ، هي القوة المستقرة الثابتة: في "تولبان"، هي أكثر إثارة للمشاعر، لامتلاكها وجه طفلٍ وشكله وبهجته ودموعه. هذا كلّه مع كونها امرأة قوية ومحبّة، عليها يتكئ الجميع. هنا وهناك، لا يتوقف البالغون عن القلق على الأطفال، سواء أظهروا حناناً أم آثروا الظهور بمظهر متحفّظٍ، كأبٍ يضع نفسه على مسافة من أطفاله، من دون أنْ يعني هذا ابتعاده عنهم.

هذه العائلات تُعافر. ليست، بأيّ حال من الأحوال، مُفكّكة، حيث يتمّ إهمال الأطفال، وينغمس الأهل في مشاغلهم. في الفيلمين، لا سلوكاً نمطيّاً للشخصيات يسير على منوال واحد، من البداية إلى النهاية. إنّها ليست حسنة ولا سيئة، لا بطلة ولا مهلهلة. لديها نقاط ضعف ونقاط قوة، لكنّها تظلّ إنسانية. يُمكن أن تكون العلاقات بين الشخصيات قاسية، بل متصادمة، لكنّها لا تستسلم. ففي الفيلمين، لا تسمح الشخصيات لنفسها بالخضوع لظرفها، وترفض الانصياع لحبسها في واقعٍ يهمِّشها وتعاني منه.

مثلاً، يريد رعاة "تولبان" معرفة أخبار العالم. ولأنّه لا يوجد سوى مذياع صغير يصدر صوت طقطقة، أكثر مما تُلتقط منه عبارة، ولا يستطيع الأب الاستماع إليه وهو يمضي يومه راكضاً خلف حيواناته، فإنّ الصبيّ، الذي يكاد يكون مُراهقاً، سيكون المسؤول عن الاستماع إلى نشرات الأخبار في النهار، كي يتلوها حرفياً في المساء، عندما تجتمع الأسرة معاً. الأخبار لا تصل بالطبع إلاّ بقدر ضئيلٍ من الدقّة، وبكثيرٍ من الدعابة المرحة. أمام صورة الأمير تشارلز وديانا، المنشورة في جريدة ممزّقة، يتساءل أحدهم إذا كان هذا أميراً أفريقياً، فيُجيبه أفضل المطّلعين، بثقة، أن تشارلز أميراً أميركياً. يُلاحظ أيضاً أنّ الفكاهة، في "تولبان" و"النار"، موجودة. روح دعابة خفيفة، يمكنها في أيّ لحظةٍ أنْ تتحوّل إلى دعابة جامحة، لتثير ضحكاً كثيراً، في فيلمين غير مُبهجين حقاً في موضوعيهما، لكنّهما قادرين على إثارة بهجةٍ عند مشاهدتهما، وبعدها.

عند مُشاهدة أفلامٍ كازاخستانية، في الدورة الـ4 (27 ـ 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2022) لـ"مهرجان أفلام من كازاخستان في باريس"، والدورة الـ16 (12 ـ 18 ديسمبر/ كانون الأول 2022) لـ"مهرجان أورآسيا السينمائي الدولي في آلماتي" (كازاخستان)، يسيطر شعور بإعادة اكتشاف متعة بعيدة، كأنّها ذكرى تعود. ثمّ، بالتدقيق في الأمر، يُمكن إدراك ما كانته هذه الذكرى: لحظات اكتشاف السينما الإيرانية والعربية في النسخ الأولى من "مهرجان القارات الثلاث في نانت (فرنسا)"، منذ أكثر من 30 عاماً. حينها، كانت هذه السينمات نادرة في أوروبا، ولديها نغمة وأسلوب مختلفان تماماً عن السينما الأوروبية. إلى حدّ ما، يمكن القول إنّ شيئاً من تلك النغمة توفّر في تلك الأفلام الكازاخستانية. بعضُ بطءٍ، لكنْ بلا ملل، وببساطةٍ يجب الصبر عليها بعض الشيء، مع سينما تُعنى بالإنسان، من دون خطاب ايديولوجي، بل مع نظرتها إلى الوجود. لا اهتماماً مفتعلاً للتأثير، بل بتقديم إبداع عفوي.

في المهرجانين، أشاهد بسعادة أفلاماً لا تشبه تلك المصنوعة في الغرب. قبل 30 عاماً، في أوروبا، كان لعددٍ قليل فقط من روّاد السينما فكرة عن السينما الإيرانية والعربية. منذ ذلك الحين، غزت تلك السينما جمهوراً كبيراً، وأفلامها تُعرض في صالات سينمائية عدّة، ولم يعد بالإمكان تجاهلها. لكنْ، هذا النجاح، ألم يتمّ دفع ثمنه من خلال قياس هذه الأفلام على نموذجٍ دولي مُسيطر؟ من الآن، لم تعد السيناريوهات والشخصيات وأسلوب المخرجين العرب والإيرانيين مُختلفة، تماماً، عن تلك الخاصة بزملائهم الأوروبيين. وأيضاً، من خلال تعلّم حُبّ هذه السينما المقبلة "من مكان آخر". هل أظهر الجمهور الأوروبي، حقّاً، قدرته على الاهتمام بما هو "الآخر"؟ أم أنّ هذا "الآخر" يحتلّ مكانته فقط، شرط أنْ يصبح "مُشابهاً" له (للأوروبي)، أو لـ"نفسه"؟

المساهمون