فيلمان عربيان يُشاركان في المسابقة الرسمية وبرنامج/مسابقة "نظرة ما"، في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، يلتقيان في قراءة أحوالٍ ووقائع وشقاء وتعاسة وقهر، مع غلبة السياسة على أوّلهما، وارتكاز ثانيهما على شيءٍ حِرفي لافت للانتباه، في التمثيل خاصة.
صراعات معروفة
أثار "ولد من الجنّة"، للمصري السويدي طارق صالح (1972)، المُشارك في المسابقة الرسمية، جدلاً كثيراً، معظمه ليس لصالحه، تماماً كما حدث مع فيلمه الروائي الأول، "حادثة النيل هيلتون" (2017). فالمخرج ينتهجُ في أفلامه سياسة كشف المسكوت عنه في المجتمع المصري، وإثارة الشائك وغير السائد، بقوّة وجرأة وقسوة، خاصة فيما يتعلّق بكواليس السلطة والأجهزة الأمنية، وممارساتهما. أمر غير معتاد في السينما المصرية، في تاريخها، ومواضيع لا يحظى تناولها بقبول كثيرين في مصر، خاصة في الوسطين السينمائي والصحافي.
مُشكلة المخرج أنّ فيلمه هذا يجمع، هذه المرة، بين نقد إحدى أكبر مؤسّسات السلطة الأمنية في مصر (جهاز أمن الدولة)، والأزهر، المرجع الكبير في مصر والعالم الإسلامي السنّي، ما يُعرِّضه (الفيلم)، مهما حاول المخرج، لاتّهامات ونيران الجانبين، قبل مشاهدة "ولد من الجنّة"، وبعدها، عن حقّ أو عن باطل.
بعيداً عن التمعّن في خيوطه وتفاصيل حبكته، لم يُقدّم السيناريو جديداً، على الأقلّ بالنسبة إلى المصري والعربي، إذْ يعلم الجميع فساد السلطات، وكيفية إدارة المنصاب واختيار الشخصيات لتبوّئها، ودور أجهزة الأمن وغيرها في التحكّم في هذا كلّه. ليس خافياً على أحد الصراع بين هذه الأجهزة، الذي يكون علنياً وصريحاً، أحياناً.
ما فعله طارق صالح مجرّد تسليط ضوءٍ بسيط على صراع جهاز أمن الدولة، أو الأمن الوطني المصري في تسميته الجديدة، ومشيخة الأزهر. ظروفٌ تؤدّي إلى ضرورة ملء منصب شيخ الأزهر، الشاغر بوفاة الشيخ الأخير، بعد الدقائق الأولى، فيضطرّ الأمن الوطني، بقيادة العقيد إبراهيم (فارس فارس)، وبتعلميات من رئاسة الجمهورية، ممثّلة باللواء السكران (محمد بكري)، إلى التدخّل، عبر الشاب آدم (توفيق برهوم)، الصيّاد الفقير، القادم من قرية "المنزلة"، للمساعدة في هذه المهمة. فالأمن الوطني يرغب في تحييد أكثر من شخصية مُرشّحة للمنصب، لانتماءاتها المعروفة سلفاً، ووضع شخصية محبوبة ومعتدلة وموالية للسلطة. في الوقت نفسه، تحاول تيارات في الأزهر عدم تفويت الفرصة، للفوز بالمنصب.
هذا يستدعي تدخلاً أمنياً سافراً، اغتيالاً أو سجناً أو تهديداً بالقتل، إلى تجنيد جواسيس، لإنجاح المهمة. وذلك بقدرٍ لا بأس به من الإثارة، مع بعض التشويق والإقناع. المثير في الأمر، أنّ سيناريو كهذا ـ معروفةٌ أحداثه وتفاصيله، ومُعاشةٌ يومياً منذ عقود في المجتمعات العربية ـ لا يُقدّم جديداً، باستثناء جرأة التناول. لكنْ، فيما يتعلق بالعناصر الفنية الأخرى، باستثناء لقطات علوية وزوايا تصوير رائعة، يعاني الفيلم بشدة تفسّخاً فنّياً غير احترافيّ، بدءاً من أماكن التصوير، إلى الأزهر من الداخل، كمسجد وجامعة ومكان معيشة، وشريط الصوت وأغنياته، والتمثيل والجُمل الحوارية، ونطق اللهجة المصرية، وغيرها. أمورٌ أقلّ ما يقال فيها إنها كارثيّة. صحيحٌ أنّ صالح مُنع من التصوير في مصر، ما عدا لقطاتٍ عدّة لشوارع وميادين التُقِطت خلسةً، فصوّر في تركيا. كذلك، رفض ممثّلون مصريون خوض تجربة كهذه، فاضطرّ إلى الاستعانة بممثلين من فلسطين وتونس ولبنان. لكنّ هذا كلّه تبرير غير مقبول، رغم الجهد والتدريب ومحاولات الإتقان.
بؤس حياة تونسية
تتقاطع أحداث الفيلم التونسي "حَرقة"، للمخرج المصري الأميركي لطفي ناثان (1987)، المولود في بريطانيا لأبوين مصريين، المعروض في تظاهرة "نظرة ما"، مع شخصية الشاب التونسي الراحل، مُفجّر ثورة الياسمين، محمد البوعزيزي، الذي أشعل النار في جسده، في قرية سيدي بوزيد، عام 2010. "حرقة"، أول روائي للمخرج الوثائقي ناثان، ليس تجسيداً للبوعزيزي تحديداً، لكنّه يُذكِّر به، وبآخرين أقدموا على المصير نفسه، بعد يأسهم من أي تغيير في أوضاع سياسية ـ اجتماعية ـ معيشية، في المجتمع التونسي.
"حَرقة"، كلمة تونسية تعني الحريق أو الاحتراق. كما تصف، بشكلٍ عام، الشباب الذين يُبحرون سرّاً، بقوارب غير آمنة غالباً، إلى أوروبا، إذْ يحرقون البحر وراءهم. في الفيلم، يعمل الشاب العشريني علي (آدم بيسا) كثيراً، ليُدخر مالاً كثيراً، إذْ يرغب في مغادرة البلد، بعدما أعيته الحياة، وحطّمته صعوبات العيش. بهذا، يُجسّد التأرجح بين صعوبة البقاء وبؤس الرحيل، ويصوّر خير تصوير مأزق شباب تونسيين وعرب كثيرين.
يعمل علي السوداوي، المتهكّم والساخط واليائس والمُنهك من كلّ شيءٍ وأحدٍ حوله، بجدّ في شوارع مدينته، كلّ يوم. يبيع البنزين الممنوع في السوق السوداء، ما يُعرّضه دائماّ لتحرّشات رجال الشرطة، فيضطرّ إلى دفع رشاوي يومية لهم، للسماح له بالبقاء في المكان، وبيع ما معه من حصّة يومية. استنزافٌ متكرّر، يأكل أحياناً ما يكسبه طوال اليوم، ويُراكم فيه حقداً وسخطاً وغضباً إزاء ما يتعرّض له.
تتعقّد حياة علي مع وفاة والده. تُسحق جهوده كلّها، عبر مزيج من الالتزامات العائلية والمأساة الشخصية، والعالم حوله لا يهتمّ أبداً بحقوقه الفردية. لعلي شقيقتان، الصغرى أليسا (سليمة معتوق) وسارا (إقبال حربي)، إلى شقيق أكبر منه، إسكندر (خالد إبراهيم). يضطرّ الأخير إلى مغادرة المدينة للعثور على عمل في أحد المنتجعات، تاركاً لعلي رعاية الشقيقتين، تعويضاً لهما عن الأعوام التي ترك فيها المنزل، من دون أنْ يتحمّل أي مسؤولية. رعاية الشقيقتين، رغم صعوبته، ليس كارثياً.
تحلّ الكارثة الفعلية مع اكتشاف علي أنّ منزلهم مرهون للمصرف، بسبب الديون التي تركها الأب تتراكم، ما يُنذر بمصادرته عند انتهاء المهلة الممنوحة.
يؤدّي آدم بيسا شخصية علي بشكل قوي، وبصدقيّة وحِرَفية كبيرتين. الصراعات الخارجية الصاخبة، وتلك الداخلية المكبوتة، خاصة عندما ينقلب العالم ضده، هذا يُلمس فعلياً، ويُتفَاعل معه بشدّة، وإنْ أدرك المُشاهد العربي مُسبقاً ما سيقدم عليه علي، وكيف ستكون نهايته.