بدأ العام الحالي بطريقة باتت مألوفة إلى حد ما في السنوات الأخيرة، أي بمجموعة من الأخبار السيئة. فمع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، وأزمات الطاقة والتضخم، اتضح أن بعض المشاكل القديمة سترافق العام الجديد. وبالفعل، لم يتطلب الأمر سوى ثلاثة أشهر لتبدأ سلسلة من المصارف الأميركية بالانهيار، تبعها مصرف سويسري. وفي غمرة الأحداث الاقتصادية والأمنية الطارئة، عادت إلى الحياة رؤية ظن العالم أنه دفنها في 2022: الواقع الافتراضي المعزز.
فمع إعلان شركة "آبل" عن نظارة "فيجن برو" الجديدة خلال مؤتمرها العالمي للمطوّرين، أعادت الشركة بأحلام عالم ميتافيرس إلى الواجهة مجدداً، بعد أن خبا نجمها وتباطأت وتيرة الاستثمار فيها. بلا شك، أثار خبرٌ من هذا النوع، ضمن بيئة اتصالية بائسة كالتي تميّز هذا العصر، عواصف من الضجيج والحماس الأعمى وعدداً لا يحصى من مقاطع فيديو المؤثرين ووجوههم المندهشة، لدرجة تفوقت أخبار المؤتمر في كاليفورنيا على أحداث أكثر أهمية كتلوث الهواء الذي تعيشه مدن أميركية مثل نيويورك وواشنطن، بفعل الحرائق في كندا. ولأن هذه الموجات نادراً ما تطرح الأسئلة، أو تقدم الأجوبة، وتكتفي بنفخ فقاعات "التثوير" و"تغيير قواعد اللعبة"، مبشرة بالمستقبل الذي يحل الآن، دائماً، ظلّت تفاصيل مثل دخول "آبل" هذا السوق الذي تفادته في السابق غريبة بعض الشيء، لا سيما بعد الفشل الذي منيت به الشركات العملاقة الأخرى في هذا المجال.
"آبل" بوصفها طائفة
ثمة ما يوحي بأن دخول "آبل"، دون غيرها من الشركات، عالم الواقع الافتراضي (أو أي عالمٍ آخر للحقيقة) كان ليثير جلبة هائلة. إذ تمكث الشركة في المنطقة الرمادية، فتبدو مجرد علامة تجارية أخرى أحياناً، وكطائفة Cult أحياناً أخرى. وبعيداً عمّا يجمع الشركة مع مثيلاتها من الشركات الكبيرة، تفرض "آبل" علاقة تقوم على التحكم المفرط تجاه مستخدميها وترتبط بكل تفاصيل حياتهم مع الشركة، ابتداءً بمتجر تطبيقاتها الذي لا يمكن للمستخدمين أن يفكروا بغيره، وانتهاءً بالتفاصيل الدقيقة المتعلّقة بالقطع المستخدمة ومتاجر الصيانة التي يحق ولا يحق للمستخدمين التعامل معها، والأعمار الافتراضية لأجهزتها حتى. ربما يكون الميل نفسه شائعاً لدى شركات أخرى، وبذلك فإن "آبل" تبدو مجرد قرشٍ آخر في المحيط الكبير، إلا أن الفارق يتضح بمجرد المقارنة بين شخصية مثل ستيف جوبز وأي رئيس تنفيذي آخر. لم تحظ إلا قلة من الشخصيات بـ "الأسطرة" نفسها التي أحاطت بجوبز، قبل وفاته وبعدها، وخلّفت ما تيسر من قراءات ومصادر إلهام ومقلّدين حاولوا محاكاة لباس الرجل الأسطورة وطريقة كلامه. ولأن الفعل، في جوهره، لا يتم من دون خشبة، كانت مؤتمرات "آبل" وفعالياتها، المساحة التي يختلط فيها العرض التجاري بالنبوءة، والمواصفات الكميّة بالسحر الذي لا طريقة يُقاس من خلالها. هناك، تصبح العروض التقديمية دروساً للمستقبل في فنون التقديم والعرض، وتُسخَّر المساحات الهائلة لتشعر الحضور بضآلتهم أمام ما يشهدونه، من دون أن يتناقض ذلك مع ودية الطاقم الذين يرحبون بالجميع لخوض التجربة إن صحّت تسميتها كذلك.
هل من جديد؟
ليس العالم الذي تقدمه "آبل" مجرد إعادة إحياء بسيطة أو حرفية لذاك الذي استثمرت شركة "ميتا" فيه وقتاً طويلاً من خلال "ميتافيرس". فعلى نقيض ما قدّمته "ميتا"، تحاول "آبل" رسم العالم الافتراضي كاستمرارية لعالمنا الحقيقي. ليس ثمة وعود، حتى اللحظة، بعالمٍ موازٍ لا حدود له، ولا قطيعة مع العالم الحقيقي. هكذا، تعد "آبل" بمزيج من الواقع الافتراضي والمعزز، الذي يجمع أفضل ما في العالمين، وبجهاز تنظر من خلاله ولا تنظر إليه، في استعراضٍ كامل لقاموس الشركة من الكلمات الرنانة وبلاغة عالم التكنولوجيا. مع "فيجن برو" لن تحتاج لخلع النظارة/السماعة، لأنها تستطيع عرض اتجاه وحركة عينيك لتحافظ على صلاتك بأولئك الذين لم يلتحقوا بركب الثورة بعد. ولن تكون مثيراً للاستغراب على الإطلاق، وستتمكن من استعمال تطبيقاتك المختلفة بيديك، وعبر تتبّع حركة عينيك، لكنك في الوقت ذاته لن تكون بعيداً عن العالم الذي يعج بالكوارث وواجهاته القاتمة والمنفرة، بفعل الخاصية التي تسميها الشركة EyeSight. قد يكون هذا الدمج أبرز ما يجب أن يوفره الجهاز الجديد، في تفادٍ للوعود التي قدمتها "ميتا" سابقاً، فأثارت تخوف المستهلكين ووقعت عرضة لسوء التطبيق.
وفي الجوهر، يتشابه الجهاز الجديد مع ما سبقه، ومهما بدا نسخة محسنة، سيعتمد في النهاية على عصر ما تبقى من الخصوصية وتسليع أي لحظة.