فن "التكويع"... استراتيجية نجاة أم عقيدة متجذرة؟

02 يناير 2025
في دمشق، 11 ديسمبر 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يشهد الشارع السوري تحولات في دلالات المفردات اليومية نتيجة التغيرات السياسية والاجتماعية، مثل "شبّيحة" و"التعفيش" و"التكويع"، حيث اكتسبت معاني جديدة تعكس العنف والسرقة والتغيرات السياسية.

- ظاهرة "التكويع" تشير إلى التغير السريع في المواقف بعد سقوط نظام الأسد، مما يعكس "الهوية الحربائية" للأفراد الذين يغيرون مواقفهم لتحقيق مكاسب شخصية، وتُقابل هذه التحولات بالشك من قبل النخب الثقافية والسياسية.

- من المتوقع أن يؤدي "التكويع" إلى تغييرات في المشهد الثقافي والسياسي في سوريا، مع إنتاج أعمال فنية جديدة وتحولات سياسية، مع التركيز على المصالحة الوطنية ومعالجة الانتهازية السياسية لتحقيق الاستقرار.

يتداول الشارع السوري عادة مفردات عفوية في حواراتٍ يومية، ثم لا تلبث أن تتحول دلالاتها بحسب تفاصيل مرحلة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية على حد سواء. بدءًا من كلمة "شبّيحة" التي كان تداولها عفويًا يشير إلى شلّة من الشبّان ذوي البنية الجسمانية المتينة، الذي تحول بعد الثورة السورية عام 2011 إلى مصطلح عنيف يُقصد به البطش والقتل؛ و"التعفيش" الذي كان يعني شراء أثاث للبيت الجديد، ليصير وصمة عار التصقت بجيش النظام الذي سرق/عفّش منازل المدنيين في الأماكن التي دخلها؛ وصولاً إلى "النعنع" الذي حُمِّل دلالات اقتصادية للإشارة إلى تصريف الدولار الأميركي لتفادي الاعتقال والمُحاكمة الاقتصادية؛ وليس انتهاءً بكلمة "التكويع" التي غدت بين ليلة وضحاها حديث الشارع السوري (والعربي) على منصات التواصل الاجتماعي بعد سقوط نظام الأسد فجر الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024. 
يستخدم السوريون كلمة "التكويع" (Turncoating) في الحالة العادية اليومية للإشارة إلى تبدّل في الأفكار الشخصية والمعتقدات والقناعات والعلاقات الاجتماعية، في إشارة إلى شخص يرتبط بفكرة أو علاقة ثم لا يلبث أن يتبدل فجأة إلى أخرى من دون مدة فاصلة، بسرعة تخطٍّ مستغربة.
إلا أنّ وصول قوات "ردع العدوان" إلى دمشق وهروب رأس النظام السابق بشار الأسد كان له وقع خاص على مصطلح "التكويع" ودخل عالم السياسة من أوسع أبوابها بعد تحول دراماتيكي في مواقف سياسيين وفنانين ومشاهير كانوا إلى مدة قريبة أبواقاً لخطابات سلطة النظام المخلوع، وانتقالهم بمجرد سقوط النظام من علم النجمتين الخضراوين، إلى علم الثلاثة الحُمر، وتبنيهم أهداف الثورة السورية والركوب على منطلقاتها. 
"التكويع" مصدر مشتق من الجذر "كوع"، أي المرفق الذي يشير إلى الانعطاف أو الالتفاف، واتخاذ مسارٍ مغاير تماماً لمسار سابق، والانتقال من الضدّ إلى الضدّ فجأة دون سابق إنذار. فعلياً، هذا الفعل ليس مستحدثاً، إذ تشير أنطولوجيا "التكويع" إلى أن أول حالة كانت من نصيب الشاعر العباسي بشار بن برد حينما كتب قصيدة هجاء بحق أبي جعفر المنصور الذي كان معارضاً لحكم إبراهيم بن عبد الله بن الحسن قبل معركة الكوفة بأيام؛ وبعد سماع نبأ مقتل إبراهيم على يد جيش أبي جعفر المنصور، حوّلها إلى هجاء أبي مسلم الخراساني، وقلب الميميّة من "أبا جعفر" إلى "أبا مسلم" بمطلع قصيدة: "أبا مسلم ما طول العيش بدائم/ ولا سالم عما قليل بسالم".
حديثاً، وفي الحالة السورية عموماً، هذا التلوّن في المواقف يشير إلى حالة نفسية أخلاقية من جهة، وحالة اجتماعية وسياسية من جهة أخرى. يمكن الإشارة في الجانب الأول إلى ظاهرة الهوية الحربائية Chameleon Identity، التي تعني بالضرورة التلون مع الموقف والمناخ العام السائد في المنطقة، بغض النظر عن المبادئ التي يقتنع بها الشخص، وبتجاهل لأخلاقيات التعامل ضمن بيئة إنسانية؛ أما في الجانب الثاني فيمكن وصف "التكويع" كرغبة في الحفاظ على "البريستيج" والقاعدة الجماهيرية وخلق مكانة جديدة في مجتمع "ما بعد التحرير"، ومحاولة كسب الرضا عبر تغيير المواقف؛ وسياسياً محاولة إلصاق الشخص ذاته بالقيادة الجديدة وإعادة سيناريو التملّق على حساب التبرؤ من النظام السابق وإظهار القطيعة المطلقة مع أي شيء من خدماته الداعمة له في ما سبق. 
في الحالة السورية، ربما تنجح هذه المحاولات في إعادة قراءة المواقف لمن انتهج التكويع من عامة الشعب والانتقال بهم إلى دائرة الطمأنه كون ما حدث معهم وارد بفعل التغييب والتعتيم، والانتقال من "الله يفرج أحسن شي" إلى "ارفع راسك فوق انت سوري حر"؛ لكن ليس من المتوقع أن يكون المسار ذاته مع شخصيات ثقافية وسياسية ودينية وأدبية محسوبة على النخب في سورية، كفنانين، وشعراء، وروائيين، وأكاديميين ورجال دين كانوا على يقين وعقيدة بما يتفوهون ويتصرفون حيال ثورة قام بها شعب مسحوق عبر التهليل لجيش النظام والدعوة لسحق المتظاهرين وتحويل مدن الثورة السورية إلى "حقول بطاطا". يكمن الاختلاف هنا بطبيعة الموقف والتعنت فيه والظهور لتشكيل رأي عام حول تأييد النظام والتشبيح لعملياته في سورية وإظهار التعامي المقصود عن جرائمه بحق السوريين (على الأقل خلال 13 عامًا مضت)، والبقاء في برج عاجي منفصل عن الواقع؛ ومن ثم الخروج على الشاشات لتبرير مواقف سابقة تحت شعار "ما كان عنا علم" أو "ما كنا نعرف". تنمّ هذه التحولات عن أن المواقف السابقة بالنسبة لهؤلاء المؤثرين والنخب كانت مرتبطة برغبات وحاجات مادية وخدمية لتسيير شؤونهم اليومية وتعزيز سطوتهم في أماكن وجودهم، وخلق هالة لوجودهم في أي محفل، و تأمين غطاء ودعم لنشاطاتهم. 
يندفع "المكوعون" بعدة عوامل لانتحال موقف جديد. نبدأ بالخوف من العقاب على التصاقهم وتبنيهم أفكار النظام السابق، فبعد سقوط النظام، خشي العديد من المؤيدين السابقين من التعرض للمساءلة أو الانتقام، ما دفعهم إلى تغيير مواقفهم بسرعة ورفع علم الثورة وكتابة منشورات وتحميل "ستوريات" تحمل علم الثورة مع "كابشن" عاطفي براق يحتوي لدى معظم الشخصيات العامة على ثلاثة أجزاء: الأول إظهار التشفي من النظام السابق، وإظهار الخداع الذي تعرضوا له على حد قولهم، والحديث عن جرائم لم يكن لهؤلاء علم أو أي معرفة سابقة بها، الثاني هو الدعاء لوحدة سورية الحرة (سورية الخضراء الآن)، والثالث هو الدعوة إلى تفادي الفتنة والمسؤولية المجتمعية للناس.

ننتقل إلى الانتهازية السياسية، حيث يسعى بعض الأفراد إلى الحفاظ على مكانتهم أو تحقيق مكاسب في النظام الجديد، فغيّروا ولاءاتهم بما يتماشى مع الوضع السياسي الجديد، ليشمل ذلك بعض المسؤولين والسياسيين (سوريين وعرب) ورؤساء الجامعات والإعلاميين الراغبين بأن يبقوا ضمن حظوة السلطة الجديدة. تقودنا الانتهازية إلى الحديث عن الضغط الاجتماعي، إذ تحول المزاج العام نحو دعم الثورة، وشعر البعض بضرورة التماشي مع التيار السائد لتجنب العزلة أو النقد، وهذا أكثر ما نجده لدى الفنانين والمؤثرين الذين يعتمدون كل الاعتماد على القاعدة الجماهيرية والشعبية في سورية؛ وكان لزاماً عليهم إظهار الولاء للثورة وسورية الجديدة، وفكّ الارتباط بأي من مكونات النظام السابق (على الأقل أمام الجمهور)، والظهور بموقف تجريم نظام الأسد وعائلته.
لكن في ما يبدو فإنّ الجمهور اليوم أكثر وعياً مما سبق، إذ أثارت هذه السلوكيات ردود فعل ساخرة وناقدة وناقمة في الوقت ذاته لدى المجتمع السوري، واعتبروا أن الأوان قد فات على دخول هؤلاء بوابة سورية الجديدة نظراً لمواقفهم وأفكارهم السابقة، والتي عززوها أيضاً بمشاركات حية في نشاطات وفعاليات داعمة لنظام الأسد، ووجودهم في كل محفل يجمع أبناءه وعائلته، او يجمع مؤيديه و"شبيحته" في أي من الساحات. وإن كان البعض قد اعتبروا أن "التكويع" يعكس الوصولية والاستغلالية والانتهازية، لا سيما بعد الرجوع إلى أرشيف سابق مليء بالتشبيح والميل لسردية النظام المخلوع. إلا أن آخرين رأوا أن الظاهرة نتيجة طبيعية للضغوط التي كان يفرضها النظام السابق على المواطنين. وهنا يتفهم الجمهور أن خوف "المكوعين" مبرر ببطش النظام وسجونه ومعتقلاته وآلة بطشه المتوحشة، ولكن الهاجس هو التحول السريع والمزايدة على مجتمع الثورة بحد ذاته، وتأسيس نوادٍ ولجانٍ تضم زملاءهم من مؤثرين وصحافيين ليشكلوا ثقلاً وكتلة في المجتمع الجديد.
حتماً سيؤدي "التكويع" في نتائجه إلى تغييرات نوعية في المشهد الثقافي والفني والاجتماعي والسياسي السوري، ولا سيما أن الفنانين والمثقفين والنخب قد أعادوا النظر في مواقفهم السابقة، وبدأوا في التعبير عن آرائهم بحرية أكبر. ربما ستشهد الساحة الفنية إنتاج أعمال تعكس التغيرات السياسية والاجتماعية في البلاد، وتنتقد النظام السابق وتسلط الضوء على معاناة الشعب خلال سنوات الحرب على وجه الخصوص، وستشهد الساحة السياسية تحولات أيضًا نتيجة حجم قاعدة "المكوعين" وأفكارهم التي ربما كانت ثورية وربما لا، إذ لا يمكن الحكم. وبالمحصلة، تظل مسألة المصالحة الوطنية ومعالجة آثار الانتهازية السياسية من القضايا الملحة التي يجب التعامل معها بحذر لضمان تحقيق الاستقرار والعدالة في المرحلة القادمة.

المساهمون