بلا ثرثرة وبأداء رفيع المستوى وتكوين سينوغرافي مُبهر ومرافقة صوتية مُعاصرة شكّلت إضافة خاصة، قدّمت فنانات فلسطينيّات شابات من طالبات مسرح عشتار العرض الأول لمسرحية "فلانة"، في مقر المسرح في مدينة رام الله.
المسرحية التي كتبها غسّان نداف، عن قصص جمعن بعضها وكتبن بعضها الآخر الممثلات أنفسهن (حلا صليبي، وبانا العارضة، وندى الخواجا، وتيمة الشعيبي)، لم تتخذ شكلاً كلاسيكيّاً بتاتاً، فالنص مكثف وعميق في آن.
أما الإخراج والسينوغرافيا فكانا مُبتكرين وفيهما خروج عن المألوف، إذ قدّم الفنان خليل بطران، الذي أشرف أيضاً على تدريب "طالبات عشتار"، ما يؤكد أنه مخرج قادم من منطقة مُغايرة، ينحاز للجديد والمعاصر، من دون أن يخدش العمل، أو يقتحمه بما هو خارج السياق. وهذا تجلى في تكوين المسرح بداية، وإدارة الفنانات، وفي الصوتيّات، والإضاءة، والتقنيّات التي وظفها بما يخدم فكرة العمل أو أفكاره.
ومزج الأداء المتقن للفنّانات اللواتي يراكمن على ما قدمه مسرح عشتار بتعدد فنّانيه، منذ تأسيسه عام 1991، ما بين المسرح بتكويناته المتعددة، والرقص المعاصر والتعبيري، والسرد الحكواتي، ليقدمن على حداثة تجربتهن عرضاً يليق باسم "عشتار"، ويمكن أن يشكّل نقطة انطلاق جديدة لهن، كما لفرق المسرح وإنتاجاته المتجددة.
وتطرق العمل عبر السرد غير الشعاراتي، وبالإيحاء الجسدي، وبتكوين لوحاته عامة، إلى العديد من القضايا التي تؤرق النساء حول العالم، والعربيّات منهن على وجه الخصوص، وخاصة الشابّات، ومن بينها التحرش، والاغتصاب الزوجي، وزواج القاصرات، والعلاقات العاطفية الفاشلة، وتسليعهن، والتفرقة ما بين الذكر والأنثى حتى داخل العائلة، وحريّة التعبير واللباس، والتنمر المرتبط بالسمنة وحب الشباب وغيرها، والعلاقة الملتبسة أحياناً ليس فقط مع العائلة وذكورها، بل مع الأم أيضاً، وهو ما يتضح أنهن رفضنه، فكان مستقرهن القبور.
ومع نبشهن تراب مقابرهن المفترضة، يبحثن عن حكاياتهن في خمس وأربعين دقيقة، بلباسهن الأنيق الذي يلامس لون الكفن، مع انزياح قليل، بحيث يحملن في العديد من محطّات العرض السرد سوياً، كما الأداء، بينما يكون منفرداً أحياناً، من دون أن يغادر البقية الخشبة، أو يكون وجودهن عبئاً على المشهد، فهنّ في حركة دائمة، ويبحثن عمّا فاتهن في حيواتهن، ويعبرن عن اشتياقهن لغرفهن التي حملت خصوصيّاتهن ويوميّاتهن ما قبل فنجان "القهوة السادة" وعبارات العزاء المُقدمة للقاتل المباشر أحياناً، أو المتسبب فيه بوعي أو من دونه أحياناً أخرى، من قبيل "عظّم الله أجركم".
وتميز الأداء كما هي المسرحية عموماً بطاقة رهيبة، تبدو انعكاساً لحركة تمرّد على الواقع، وانحيازاً لمساحة يبحثن فيها عن الحياة، والحب، والفرح، والحرية، والأمان، وإلى من يسمعهن في مجتمع أصمّ إذا ما كان الصوت أنثويّاً.
وكان لافتاً من بين المشاهد التي جلّها تستحق التوقف والتحليل ذلك الذي يتحدثن فيه عمّا سيفعلن حال عدن افتراضاً إلى الحياة مجدداً، فتجيب إحداهن بأنها ستكثر من زيارة المقابر، في حين ستقوم الثانية بالتزين بالماكياج من دون أن تأبه للحبوب والبثور في وجهها، بينما ستشتري الثالثة، أو هكذا تريد، فستاناً لوالدتها وتسعى لأن تصبحا صديقتين، في حين ستهرع الرابعة نحو التهام أوقية من حلوى الكنافة وفوقها شوكولاتة "نوتيلا" وفستق حلبي ومزيداً من القطر المُحلّي.
"فلانة"، عنوان المسرحية، يحمل دلالات كبيرة تضيف للعمل، بينها التورية، فعدم ذكر الاسم صريحاً يعكس تهميش الأنثى في مجتمعاتنا العربية، ففي الكثير من الحالات يكون الكشف عن اسم الأم، أو الأخت، أو الزوجة "عيباً"، أو مثار سخرية وتنمّر يزعج ذكور العائلة كثيراً، ومن بينها أيضاً التعميم، بحيث يوحي العنوان بأن الحكاية أو الحكايات ليست خاصة بقدر انطباقها على الكثيرات، وخروجها عن التأطير الزماني والمكاني، ورغم الروح العصريّة السائدة.