فرقة "البومة"... أغانٍ تحارب النظام الأبوي

21 اغسطس 2021
تطرح الفرقة موضوعات جندرية ترتبط بالشرف والحرية والعذرية (فيسبوك)
+ الخط -

لعبت الوسائط السمعية البصريّة دوراً بارزاً في تأجيج السجال حول واقع المرأة داخل البلاد العربيّة، ما ساهم في بروز جمعيات ومواقع ومجلاّت وأفلام وفرق مسرحية وغنائية تُعنى بقضاياها ومُتخيّلها. لأنّها ــ بقدر ما أعادت الاعتبار إلى دور المرأة المركزي في الحياة اليومية داخل الأسرة والعمل والثقافة والسياسة ــ كرّست معها خطاباً فكرياً نسوياً قوياً، يقوم على دحض مُرتكزات تقليدية أبويّة تأسّس عليها المجتمع العربي منذ الفترة الوسيطية.

وفي هذا السياق، تبرز تجربة الفرقة النسويّة الغنائية المصرية "البومة" (كانت تُسمّى سابقاً "بنت المصاروة")، في واجهة المشهد الغنائي المصري. فقد غدت من الفرق الفنيّة التي تخلق اليوم جدلاً واسعاً ومُستمرّاً داخل مصر، كلّما صدر لها ألبوم غنائيّ جديد. إذ تجد نفسها في حلبة الجنون السُلطوي عن طريق حوارات ونقاشات ساخنة على وسائل التواصل، حول واقع المرأة المعاصرة داخل مصر وخارجها. جرأة غنائية لا تُكسّرها إلاّ حيتان السُلطة، ولا يُبدّد أفقها الفنيّ إلاّ رتابة موسيقاها وعدم وضوح إيقاعها، ما يخلق نشازاً في أذن المُستمع، لأنّها تنطلق من توابل موسيقيّة وخليط غنائي، يمزج بين الراب والفنّ الشعبي في أحيان كثيرة.

لكنّ الجرأة التي تمتلكها فرقة "البومة" جعلتها في طليعة الفرق الغنائية النسويّة العربيّة التي تقف في وجه السُلطة الذكورية، لأنّ ألبوماتها لعبت دوراً في تكسير التابوهات وتغيير البُنى الذهنية، عن طريق أغان منطلقاتها الفنيّة والجماليّة من قاع المجتمع المصري ومآزقه وتبدّلاته.

بدأت الفرقة العمل سنة 2015 بشكل مستقل، بعد حصولها على منحة من "المركز الثقافي البريطاني". ولأنّها لم تكُن كافية إلاّ لإنتاج أغانٍ مُحدّدة، فقد عملت على مواصلة إنتاجها الموسيقي، حتّى بدأ صوتها يعلو هنا وهناك، مُكسّرة مكبوث المُجتمع المصري/العربي، عن طريق موضوعات جندرية ترتبط بالشرف والحرية والعذرية والجسد عموماً. لم يكُن سهلاً على فرقة نسوية غنائية اختراق المجتمعات الأبيسية (البطريركية أو الأبوية) وتحجّرها، لولا وعيها بقضية المرأة وما لعبته من دور مركزيّ إبان ثورات الربيع العربي. فقد نحتت أفقاً غنائياً نسويّاً مُغايراً ومُتحرّراً من التقليد المشرقي، وأكثر التحاماً بالقاع المصري وتحوّلاته. غير أنّ أغاني فرقة "البومة" تأخذ مساراً مُتقاطعاً مع السُلطة السياسية والدينية والجندرية، بحكم أنّها تعمل على تكسير مختلف أشكال سُلط قمعية تعترض سير وتقدّم الاجتماع العربي في نظرته إلى المرأة.

على هذا الأساس، شقّت الفرقة لها مساراً غنائياً ينأى باشتغالاته الفنيّة عن سلطة المركز المصري وأغاني السُلطة، وما يجول في دواليبها من مهرجانات ومؤسّسات وجمعيات رسمية، بطريقة تجعلها تعشق الهَامش، الذي منه تشكلّت وعلى أثره فجّرت وبلورت قصصاً وحكايات من المجتمع المصري، وذلك على شكل أغان نسوية، تمزج بين قديم مُعتّق في جرار الكلام وجديد عابر لأشكال وألوان من الموسيقى المعاصرة. ترسم "البومة" اليوم مساحة غنائية نسويّة مغايرة تشدّ الانتباه وتستحق كلّ التشجيع، أمام تنامي تفكير ذكوري بالعالم العربي يُلخصّ كيّان المرأة في جسدها وأعمالها المنزلية.

الفرقة تتجاوز النقد أحياناً لصالح تغيير صور نمطية اجتماعية بدائية، استبدت بالاجتماع العربي، وجعلت علاقته بالمرأة تقبع في التقليد أكثر من ما ترنو إلى الحداثة. كما أنّ "البومة" لم تعمل على كتابة أغانٍ واجتراح أفق موسيقيّ لها فقط، بل دخلت غنائياً في مُساجلة التراث الغنائي المصري الشعبي، كما هو الشأن مع الأغنية الفولكلورية "قولوا لأبوها" ودلالاتها الذكورية داخل العرس المصري، فجاءت أغنيتها ردّاً على هذا السلوك القبلي التقليدي الذي ينتهك جسد المرأة وأحلامها وحريّتها تحت عباءة الطهارة والعذرية والشرف. إنّها تنسف القديم الذي لا يُعوّل عليه، وتُشيّد عليه غنائياً جملة أفكار جندرية جديدة ومعاصرة. وبقدر ما تحترم تاريخ البلاد العربيّة، فإنها تتطلع من جهة أخرى إلى أنْ تغدو نداً لها على مستوى تلقّي هذه الميثولوجيات التاريخيّة ونقدها وتفكيكها، حتّى لا تتغلغل أكثر داخل النسيج الاجتماعي.

هذا وتجدر الإشارة، إلى أنّه رغم الأبعاد النقدية التي تطبع أعمال الفرقة الغنائية، إلاّ أنّ أغاني من قبيل: "أنت الكامل"، و"ع الوش بانت"، و"يا عروسة"، و"ع البر"، و"أنا رملة" وغيرها، تبقى من الناحية الجماليّة هزيلة ومُرتبكة، وتقوم على نوع من الإنشاد الوظيفي الذي يُسخّر الأغنية لأنْ تكون مجالاً للترفيه وليس للتذوّق الفنيّ. تُعاني الموسيقى من هشاشة مُفرطة لدرجة تنعدم وظيفتها الجماليّة، والسبب أنّ فرقة "البومة" تولي أهميّة بارزة للكلمة وتأثيرها في المُستمع على حساب رحابة الآلات الموسيقيّة وفتنتها في خلق تلقّ غنائيّ مُغاير.

هذا الأمر، يجعل المنتوج الغنائي تقريرياً ومُباشراً ولا يُحقّق أيّ مُتعة فنيّة، إذ تنتفي الحدود والسياجات بين سلطة الكلمة (الأغنية) ورقّة الآلة (الموسيقى)، ولا يُحقّقان معاً أيّ تناغم منشود يجعل الأغنية فعلاً إبداعياً وليس شيئاً آخر. كلّ هذا، مقابل أغانيها التلقائية المُذهلة التي تُحاكي من خلالها قصصاً إنسانية حقيقية طاولت المجتمع المصري. مُتأرجحة بين فنّ الراب والغناء الشعبي، ما يجعلها ذات سمة غنائيّة تركيبيّة قادرة على الغوص في قاع الواقع، فضلاً عن إبراز جراحه ونتوءاته، وما يحمل من أهوال وتصدّعات وتناقضات في علاقته بالمرأة وحريتها، أمام ما يشهده العالم ومجتمعه المدني من تحوّلات كبيرة.

المساهمون