فرانز شوبرت: كما لو أنها صرخة الحياة الأخيرة

19 نوفمبر 2020
يعتمد شوبرت في كثير من أعماله على تصورين متناقضين (Getty)
+ الخط -

بتصور الفيلسوف النمساوي كارل بوبر، فإن فرانز شوبرت (1797- 1828) آخر الموسيقيين العظام. ربما كان للموت تفسير مجازي لرحيله المُبكر في الواحدة والثلاثين من عمره، باعتبار أنها خاتمة العصر الذهبي للموسيقى الكلاسيكية. وبعد 192 عاماً من رحيله، الذي يصادف ذكراه اليوم، ما زالت موسيقاه تحيطنا بشبابه الأبدي. إنه شاعر الموسيقى، أو الأكثر شاعرية بين الموسيقيين، حسب وصف الموسيقي المجري فرانز ليست. وبألحانه المرهفة، شكّل إلهاماً لجيل الرومانتيكيين بعده، وإن جعلوا من الموسيقى تجسيداً صارخاً لتحطيم الشكل. هل هو الانحراف الذي تسبب في تدهور الموسيقى وحمل بوبر مسؤوليته للألماني بيتهوفن؟ ما يمكننا قوله إن القالب الموسيقي استنفد إمكانياته التعبيرية مع موسيقى بيتهوفن، أو ما تبقى ليُقال بعده. ذلك ما تجرأ عليه شوبرت فقط، مضفياً على روح الموسيقى الشعر، لهذا كان مؤلف الأغاني الأهم.

تتواشج موسيقى شوبرت بالخفة والعمق، الوضوح والغموض. ثمة جانب مشرق وآخر مظلم؛ هناك مرايا متعاكسة صبغت موسيقاه بتلك الفرادة. وعلى خلاف تدفق موتزارت الفطري بتناغمات هي جوهر تكوينه الموسيقي، تحدد الارتجالات لدى شوبرت الجزء المُكمل لنواقص المادة اللحنية. يشير الكاتب الياباني هاروكي ماروكامي إلى سمة جوهرية في سوناتاته، فبدون الارتجال تصبح ألحاناً عادية.

يصبح اللحن ثانوياً تملأه تنويعات مرحة وربما قاتمة؛ غير أن عبقريته في التنفيذ تتسع في تطوير اللحن من الداخل وليس في مظهره عبر توظيف التفاصيل ببراعة: إضفاء الستاكاتو، وهي أصوات قصيرة أشبه بالنقر، أو الأصوات التوكيدية. في تلك الإضافات، اتسع المضمون الموسيقي كمجموعة لامتناهية من العلامات، كما لو كان سيمياء موسيقية.

عُرف عن شوبرت تقوقعه الذاتي، عانى بسبب شعره الأجعد، وسُمرته، فكان محل تنمُّر رفاقه في المدرسة. ولم تحد عبقريته المُبكرة من ذلك، إذ عاش مُهملاً طوال حياته، وتعرّض لاستغلال الناشرين. يتفق الجميع على أنه بدأ في الثانية عشرة بتأليف الموسيقى، وحين بلغ التاسعة عشرة كان قد ألف أربع سيمفونيات، بدت عليها تأثيرات هايدن وموتزارت. كانت مرحلته الأولى غزيرة الإنتاج، وربما مدفوعة بطيش الصبا. وعندما تعرّف إلى موسيقى بيتهوفن، اتبع نموذجه المُمهد للرومانتيكية. في مرحلته المتوسطة والقصيرة، ظل مُقلاً، ليعاود غزارة الإنتاج في آخر مراحله.

هل كان مدفوعاً بالسباق مع الموت؟ في العشرين من عمره ألّف أغنية "الموت والعذراء" من شعر ماتياس كلاوديوس على مقام ري مينور. كان في العشرين من عمره، أي في بداياته الرومانتيكية. كان يحاول تصوير محاورة شعرية لفتاة جميلة مع الموت؛ مطلع فاجع وهي تطالب الموت بالرحيل عنها. لكن صوته التوكيدي بلحن ممتد يحاول طمأنتها لكي تمنحه يدها كصديق، لتنام بين ذراعيه بنعومة. وبتأليفه 615 أغنية (ليدة)، يُعتبر شوبرت الأكثر غزارة بين نظرائه الموسيقيين في تأليف الأغاني، وامتاز باختيارات شعرية رفيعة المستوى، وهي مسألة لم يكن يعتني بها الآخرون، إذ كان غايتهم اللحن.

اكتشف شوبرت إصابته بمرض الزهري المميت، عام 1823، كان في السادسة والعشرين، بعدها بعام سيؤلف رباعيته رقم 14، بعنوان "الموت والعذراء". وظف الثيمة اللحنية للأغنية في الحركة الثانية لرباعيته. لكنه توسع بتجريد موسيقي، فلم يعد يرثي العذراء الجميلة فقط، إنما يحاور الموت الذي يتبعه في كل لحظة.

يغلب على رباعية شوبرت الطابع الرومانتيكي، عدا أنه احتفظ بصلات مع عصر الروكوكو والباروك. ليس فقط في احتفاظه بالقالب الموسيقي، إنما في إضفاء طابعها المُشرق في بعض الأجزاء؛ يمكن ملاحظة بعض تأثيرات موتزارت. يمتاز العمل بثراء غنائي، محكوم بصدمات متنافرة. وأحياناً، احتجاز الثيمة اللحنية من دون أن يُسمح لها بالتطور أو الاكتمال.

تتكون الرباعية من أربع حركات، كل منها تنويع على ثيمات محدودة؛ تتناوب فكرة الألحان على التوسع والبتر، وربما الهدم. استرسال لحن جذل يختنق بصوت آخر، يتلاشى ثم يعاود حضوره في صيغ متنافرة أو ممزقة لا تعثر على اتصال علاماتها الموسيقية، بل تستبدل كحزمة من النشيج. لا بد أنها رقصة الموت؛ تناوب الشكل مع المعنى. وفي الحركة الأخيرة، يكون اللحن أكثر سرعة، ويتصاعد عنفوان الصراع بمطلع ديناميكي، كما لو كانت صرخة الحياة الأخيرة.

هنا، يتعارض معه الموت بحدة عبر كوردات ثنائية من الثامنات والرابعات، الحركة الجذلة تكون أسرع، يبدأ اللحن غير قادر على الاكتمال، ثم يستعيد استرساله مع بعض التهلهل. فالتنويع على الثيمات اللحنية عبر شد الأوتار أو نقرها القصير، وتغيير العلامات، يمنح اللحن ديناميكيته وتأثيره.

يعتمد شوبرت في كثير من أعماله على تصورين متناقضين، لحن منطلق وآخر متشنج وقلق. وفي رباعيته، هناك تشابك محموم لتلك الثنائية. لكن الزخم يتأتّى من انبثاق الموسيقى من مكامن غير متماثلة، توسع اللحن ثم التعارض بين ثيمتين في محاولة للاندماج. تنتهي الرباعية بأصوات عاصفة؛ استخدام كوردات في الخطوط اللحنية من الثامنات والثالثات والخامسات؛ زيادة التوتر، والصعود إلى أعلى أوكتاف قبل القفلة الموسيقية؛ هنا الموت هو الذي يمارس جذله.

تعرّض شوبرت لإنكار معاصريه، قلة من أصدقائه وبعض النخب آمنت بعبقريته. لكن امتيازه في براعته بصياغة كل القوالب الموسيقية التي ألفها ليجعلها ضمن القمم. يمكننا استثناء أوبرا وحيدة ألفها، مُتأثرة بألحان الأغاني أكثر من كونها موسيقى درامية. لكنه في آخر سيمفونيتيه الأخيرتين، وهي الثامنة غير المكتملة والتاسعة، يمكنهما التحليق بجانب سيمفونيات بيتهوفن.

أما أعماله للحجرة، فهي لا تقل براعة عن رباعيات هايدن وموتزارت. ونجد بين سوناتاته الـ 22 بعض أجمل المؤلفات للبيانو، بينما حددت مؤلفاته للفانتازيا والارتجالات الأساليب الرومانتيكية التي تركت أثرها على شوبان وشومان والرومانتيكيين المتأخرين. فالموسيقى اتخذت معه سمة الشعر، من دون إحالتها إلى موسيقى برنامج.

استعاد شوبرت اعتباره عبر جيل الرومانتيكيين اللاحقين له؛ ثمة مقولات تؤكد أنه حظي بتقدير بيتهوفن. ولا ندري حقيقة الحادثة التي نقلها أصدقاؤه، حين زاروا بصحبته بيتهوفن محتضراً؛ قالوا إن الأخير رفع يده في إشارة تبجيل له. ربما لم تحدث الواقعة، أو أنه تم تحميلها قدراً من الأسطرة والمبالغة؛ ربما كانت تحية عادية لموسيقي موهوب لم يحالفه الحظ من الشهرة، فاستدعى أصدقاءه إرثهم الديني بإحالة لصورة من المسيح والحواري.

ذلك لا يُقلل من قيمة شوبرت، بينما التمسك بتلك الإشارة كعلامة تبجيل كانت في وقتها تعزيزاً لأهميته الموسيقية في مواجهة إنكار عصره. غير أن تركة شوبرت تجعله واحدا من أعظم الموسيقيين على مر العصور. ورغم حياته القصيرة، ترك ألف عمل موسيقي، بينها الكثير من روائع التراث الموسيقي العالمي.

كان لدى اليونانيين اعتقاد بأن الذين يموتون شباباً تحبهم الآلهة لأنها تمنحهم شباباً دائماً وتخلدهم بجانبها. في حالة شوبرت، فإن خلوده يرتبط بموسيقاه، فهو أول موسيقي يتجرأ على محاورة الموت منفتحاً على تصورات للوجود في تجريد موسيقي. كما لو أنه سأل الموت: لماذا تخطفنا في وهدة الشباب؟ وعلى خلاف ما اتبعته المراثي الجنائزية بحمولة دينية، في تصورها للحساب والعقاب، أدان شوبرت الموت واستنطقه عبر العلامات الموسيقية في تنافرات غير منطقية. وقبل ذلك، اتسع على التفاصيل والإضافات؛ وربما أنقذ أسلافه الموسيقيين، بصورة ما. لكن في سنواته الأخيرة كان كل عمل بالنسبة له بمثابة ارتجال أخير للحياة.

المساهمون