فراس العنداري... تلك الموسيقى وذلك الموشّح

26 نوفمبر 2021
يتقن العزف على آلات وترية أخرى كالفيولا والكمان (مترو المدينة)
+ الخط -

في بلد ما زال يحاول التنفّس وسط ركامه، وتردٍّ يهدّد وجهه الثقافي، ثمة أركان ما زالت تحتفظ بأصالة نادرة. عازف العود والمغنّي الشاب، فراس العنداري، يسعى إلى أن تستمع بيروت لما جاد به الزمان من التقليد الموسيقي المشرقي، فيجول بعوده وصوته على فضاءات ثقافية في العاصمة اللبنانية، متشاركاً وزوارها مختارات من ذاك الموروث، عزفاً وغناءً.

فبعد وصلة تقليدية في مكتبة "برزخ" في بيروت، قدّمها العنداري الشهر الماضي برفقة مجدي زين الدين على آلة الرقّ، حمل الشاب عوده وحطّ الرحال في مسرح "مترو المدينة"، حيث قدّم في التاسع عشر من الشهر الحالي حفلة موشحات عربية عنوانها "تعال يا خيال". انضم له ولزين الدين فيها كل من محمد خير نحّاس على الناي ومحمد النحّاس على القانون، وشادي الصغير (بطانة). عنوان العرض مستوحى من موشّح مدرج في برنامجه هو "تعال يا خيال بهجة جماله"، المعروف بأداء الشيخ سيد الصفتي، وآخرين، وهو عن قصيدة للشاعرة عائشة التيمورية.

عنوان يحمل في ثناياه تمنياً ونداءً لزمن كان لموسيقى المقام فيه عِزّ ما زال محفوظاً، وإن ندر حضورها في ساحات الغناء الحديث اليوم، وتحديداً لدى شبابها. فخيار فراس العنداري؛ ذي الأعوام الأربعة والعشرين، أن يقدّم برنامجاً كاملاً من الموشحات، لا يأتي عبثاً، بل أملاً منه في أن يقرّب جمهور بيروت من عالم موسيقي بات بعيداً عن مسامعه.

"لا أسعى لإحياء التراث، بل لتعزيز ثقافة الناس وتعريفهم عن كثب بموسيقاهم"، يقول العنداري. ويضيف "فمن خلال الموشحات، يمكن استعراض المقامات والإيقاعات الموسيقية المختلفة".

أتى برنامج "تعال يا خيال" بخمس وصلات، ضمّت موشحات لسيد درويش، وعمر البطش، وسلامة حجازي وغيرهم؛ بعضٌ منها معروف، والآخر قد يكون أغلب الجمهور على موعد أول معه. يهتم العنداري بنشر موشّحات غير تلك المألوفة للمستمع العربي، كما يقدّم ما هو سائد منها؛ كموشّح "لمّا بدا يتثنّى"، على سبيل المثال، إنّما بأسلوب غنائي فريد غير متأثّر بالتسجيلات الحديثة، عماده الأداء الارتجالي، وهو "ركيزة الغناء العربي الأصيل التي يتطلّب إتقانها الكثير من التمرين"، كما يقول الموسيقي الشاب.

نقطة أخرى يطرحها العنداري في توجهه؛ فيقول إن هناك فجوة كبيرة ما بين الموسيقيين اليوم وموسيقاهم، وهناك مواد موسيقية من صلب التقليد العربي غير معروفة لدى بعض الموسيقيين، وما الموشحات إلا عينة منها. ويشير هنا إلى أثر الاستعمار في تقليص "ثقل" الموسيقى العربية، وتوسيع الفجوة ما بيننا وبين موسيقانا؛ إذ إن أثره أدّى إلى إقصاء كثير من الأبعاد الموسيقية الموجودة في موسيقى المقام. 

في هذا السياق، يذكر العنداري المؤتمر الأول للموسيقى العربية، الذي عُقد في القاهرة في ثلاثينيات القرن الماضي، وكان له تأثير كبير في تغيير طرق تعلّم الموسيقى في المنطقة، لتنطلق فكرة المعاهد الموسيقية وقراءة النوتة، وتصبح حلقات الشيوخ والحفظ من الماضي، حين "كانت الأذن هي الميزان"، على حد تعبيره.

ولد العنداري في لبنان عام 1997، لعائلة حاضنة للفنّ والشعر؛ فنشأ ينظم ويغنّي شعر الزجل الشعبي، قبل أن يبدأ مشواره في تعلّم عزف العود والغناء التقليدي، وهو في الثانية عشرة من عمره. من هنا، يؤمن المغني الشاب بضرورة تثقيف الأطفال لبناء توجه موسيقي مبكر، وهو يعمل أيضاً في مجال تعليم العزف والغناء التقليدي للأطفال، في عدّة برامج محلية موجّهة للأطفال اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين اللاجئين في لبنان. كما بدأ خلال عام كورونا والحجر الصحي بتجربة تعليم الموسيقى للكبار "أونلاين". إلى جانب العود، يتقن العنداري العزف على آلات وترية أخرى، كالفيولا والكمان والجوزة، وقد شارك عزفاً وغناءً في عروض موسيقية مع فرقة "أصيل"؛ ضمن فعاليات محلية كمهرجان "بيروت ترنّم"، وأخرى عالمية في لندن وبرلين وروما والكويت.

أمّا مسيرته الفردية، كعازف ومغنّ؛ فقد شهدها مسرح "مترو المدينة" في بيروت، حيث قدّم الشاب عدّة عروض، تنوّعت ما بين القدود الحلبية، مروراً باستعادات لموروث صالح عبد الحي الغنائي، وأغاني كارم محمود. ولا يبعد العنداري كثيراً عن أجواء الغناء الشعبي الحديث التي تصبّ في قالب موسيقى المقام، فقد سبق وقدّم على خشبة مترو ذاتها حفلاً حمل عنوان "المهرجان الشعبي الكبير"، وشمل مختارات لمغنّين شعبيين مصريين، مثل أحمد عدوية، وحكيم، وعبد الباسط حمودة، قدّمها بأسلوبه الغنائي الخاص.

يطمح العنداري اليوم لإنتاج ألبوم في مجال الموسيقى المقامية يشمل مؤلّفاته الخاصة، وهو مشروع ما زال يبحث عن دعم. وفي ذلك المجال، يسعى إلى لقاء موسيقيين من السرب نفسه، حيث للموسيقى المقامية حضورها من دون مزج أو تكسير.

المساهمون