استمع إلى الملخص
- يعيد الفيلم النظر في الاستشراق وتاريخ شمال أفريقيا، ويعكس الصراعات الشكسبيرية على السلطة في روما، حيث يتلاعب عبد بالأباطرة ويستخدم الإمبراطور الدعاية لتحويل الأنظار عن المشكلات.
- يتميز الفيلم بأداء قوي من دنزل واشنطن، ويقدم سكوت لوحة سينمائية غنية بالتفاصيل، تعكس دور الدعاية في تشكيل الوعي والمجد في ساحة الكوليزيوم.
في "غلادياتور 2" (2024) لريدلي سكوت، هناك فارس مُسيّس يعشق مقاتلة بربرية من شمال أفريقيا، تضع وشماً مميّزاً ينسبها إلى جغرافيا محدّدة. مقاتلة تشارك في محطة حربية، تعكس بصمة خمسة قرون من المجد والنهب. حربٌ لكسر كلّ مقاومة نتج عنها رَوْمنة شمال أفريقيا. يؤكّد استخدام تعابير، كدجاج رومي ولباس رومي وزيت رومي، عام 2024، وَزن روما في تاريخ هذا الشمال. تعمّقت الصلة مع تصوير الفيلم في "ورزازات" المغربية، حيث البراري البِكر، والضوء الطبيعي ثابت ساعاتٍ طويلة، ومُلائم جداً.
الفارس المهزوم في شمال أفريقيا يصير عبداً لروما. فَقَد مُرشده باكراً، لرفضه القتال لتسلية المتفرّجين. موته أشبه بانتحار بطولي للتحرّر من العبودية والذلّ. في هذا السياق، على الفارس الأسير القتال لتسلية أسياده الجدد، الغارقين في النعمة والملل، بينما هو غارق في الغضب.
في خلفية المشهد، مؤامرات سياسية وتحالفات انتهازية. وفي الواجهة، حفلات مصارعة. لفتح أفق جديد للحبكة. تنتهي المواجهة بين الخصمين بالتعادل، كما في قتال أنكيدو وغلغامش.
تكمن المفارقة في وضع بطل حقيقي في خدمة بطل مزيّف، لا يملك صفات البطولة. فجأة، التقت مصلحة العبد والسيد على هدف واحد. "التطوّر الدرامي رحلة فقدان البراءة" بحسب كين دانسايجر ("فكرة الإخراج السينمائي: كيف تُصبح مخرجاً عظيماً؟"، ترجمة احمد يوسف، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، القاهرة 2009، ص. 46). يعي المقاتل حقيقته الجديدة. من يدخل الحلبة، لن يصون براءته. هكذا يخلق السيناريست حبكة مشوّقة. ورغم الغضب والقوة والدم السائل في الحروب الرومانية، في شمالي أفريقيا، جرت في الفيلم معركة واحدة حسمت الصراع.
يعيد ريدلي سكوت النظرة الاستشراقية إلى منطقة شمالي أفريقيا. في كلّ قصة أفريقية قديمة، هناك عبد. يُردّد دنزل واشنطن أنّ "حلم كلّ عبد أنْ يملك عبداً". كتب المؤرّخ عبد الله العروي ("مجمل تاريخ المغرب، ص 92): "صَوّر المؤرّخون الأوروبيون سكان شمالي أفريقيا بأنّهم تَروّموا (من روما) عن طيب خاطر. بذلك، يُغيّبون وجهة نظر السكان الذين يقعون تحت السيطرة".
"غلادياتور" فيلم تاريخي سياسي عن روما العنف والقتل والأباطرة الطغاة، وعن رخاء النُّخب وبؤس الشعب. نخب تُسوّي حساباتها بالغدر والمؤامرات، وبرِهانات المقاتلين في الحلبة. كلّ حملات النهب والدم والنار في شمالي أفريقيا تصير استعراضاً من ذهب ومجد في روما، المدينة المنقسمة كالعالم المعاصر. هكذا يتمّ استعداء الماضي لفهم الحاضر. قصة "غلادياتور" اقتباس سينمائي لقصة سابقة ظهرت في أفلام أخرى، كـ"سبارتاكوس" (1960) لستانلي كوبريك.
يغادر الجنرال أكاسي مملكة نوميديا، لإنقاذ مدينته المحبوبة روما، حيث يتقاتل الأمراء الأشرار. فجأة، يظهر اللقيط المفقود عائداً إلى نقطة الانطلاق. هذه خطّاطة سردية قديمة تحقّق العوْد الأبدي. أمير روماني قحّ يعود ليقاتل من أجل "روما مدينة مفتوحة"، روما الحلم والعدالة. جنرال ديمقراطي في مواجهة تحلّل النخبة السياسية المخملية. ينهزم القيادي الفاسد. يبدو أنّ الجنرالات هم أمل كلّ المدن.
على صعيد الأداء، ما معايير الكاستينغ: الجسد؟ المزاج؟ ثقافة الممثل؟ قدرته على التحوّل بين درجات نفسيات مختلفة؟ كان كاستينغ الدور الثانوي مُتفوّقاً على أداء بول ميسكال (البطل) الذي كان جسدياً قوياً وفنّياً بعيداً جداً عن أداء راسل كرو في "غلادياتور" الأول (2000) لسكوت أيضاً. كاستينغ الدور الثاني أفضل من كاستينغ الدور الأول، لذا يستحقّ أداء دنزل واشنطن وقفة خاصة، في ما يخص كثافة كتابة الشخصية. يُحاكي واشنطن سيرة العبيد، ويحمل بصمة الكَيّ على جلده. يؤدّي دور كافور الأخشيدي. يُنصَّب قرداً على العرش (المتنبي وكافور الأخشيدي؟).
فنّياً، يتقمّص واشنطن دور العبد المقهور بصدقية مدهشة. إنّه ممثل أسمر كبير في دور عبدٍ يستمتع بملكيّة العبيد، وبمواجهة إمبراطورين مُدلّلين.
هذا فيلم سياسي عن صراع شكسبيري على السلطة. يحكم مدينة روما توءمان، رضعا مؤامرات القصور (لا يزالان يظهران في أيقونة قمصان نادي "آيس روما" لكرة القدم). بينما يتزايد جوع الشعب في لعبة العروش هذه، يتلاعب عبدٌ بالأباطرة. يعمل الإمبراطور على تحويل أنظار شعبه عن مشكلاته الداخلية، بواجهة أسد وسلوك ذئب. "الغاية تبرّر الوسيلة". لم تظهر المكيافيلية مع نيكولا مكيافيلي، الذي اكتفى بتسميتها في كتابه "الأمير" (1513).
يعلن سرد ريدلي سكوت هويته البصرية، في ذهاب وإياب بين سينما الجماهير ذات الإيقاع السريع، وسينما المخرج المؤلّف، الذي يعتمد البطء ليتسرّب المعنى إلى وجدان المُشاهد. هذا فيلم رجاليّ، تُحلّ فيه المشكلات بالعضلات. لذا، فإنّ النساء جَوارٍ يمارسن النميمة. بصرياً، الفيلم لوحة زيتية كبيرة من دون أنْ تكون كادراً ثابتاً مملاً. الحركة لا تتوقّف في كوليزيوم مائيّ مُتخيّل، بتفاصيل باذخة ومقنعة. خمسة قرون من القتال في الكوليزيوم بوصفه ساحة لتسلية الشعب وإلهائه. الشعب الجائع يتسلّى، ولا يعرف مصيره.
نقل سكوت فرجة الكوليزيوم الرومانية إلى الشاشة العظيمة. جَلب القياصرة أسْراهم الأقوياء، وأغرب الحيوانات وأضخمها، من أفريقيا إلى روما، لكسب رضا الجمهور. تُستخدم الدعاية الحيوانية لصناعة المجد والتفوّق على المنافسين. الدعاية حربٌ على الوعي. هكذا صَوّر سكوت دور الدعاية في صناعة مجد الأباطرة في ساحة الكوليزيوم. كوليزيوم مائي، تؤطّره سنابل الشاعر فيرجل (70 - 19 ق.م.) عن حياة غلادياتور. شاعر مقاتل في مهمّة مُقدّسة. صارت حبوب المشهد الأول سنابل في اللقطة الأخيرة. مرّ الزمن.
تساءل فيرجل: ما الفنّ الذي ينتج حصاداً غنياً؟ إنّه فن صنع الاستعارة بالمحاكاة، ومنح الحسّي أبعاداً رمزية في الحكاية واللقطة. فن السرد البصري ممزوجاً بتحدّي التنظير للفنّ. الكوليزيوم استعارة للساحة السياسية. كوليزيوم يغرق فيه كثيرون.