أخيراً، أطلق الفنان العراقي كاظم الساهر، أغنية جديدة بعنوان Hold Your Fire، من المفترض أنها تضامن مع الغزيين، ودعمٌ للشعب الفلسطيني وصموده في وجه الاحتلال الإسرائيلي.
لا يوحي المحتوى بجديد يذكر يقدّمه الساهر خلال هذا العمل. ما يعنينا، تقديم الأخير للأغنية باللغة الإنكليزية. قد يتساءل المرء للوهلة الأولى: ما الدافع إلى غناء فنان عربي شهير باللغة الإنكليزية؟ ألسنا بصدد اهتمام عاطفي وأخلاقي يتطلب لغة مشتركة للتضامن والشجب والغضب والتآخي، ومختلف المشاعر المطلوبة أمام ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من مجازر يومية؟
طوال الفترة التي اندلع فيها العدوان على غزة مع انطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حتى هذا اليوم، لاحظنا انتشار العديد من الأعمال الغنائية العربية، منها الجديد، كأغنية "راجعين"، ومنها ما كان استعادة لبعض الأغنيات القديمة، كأغنية "عاب مجدك" للمغنية اللبنانية جوليا بطرس، و"الحلم العربي" و"القدس حترجع لنا"، وغيرها من أعمال تحمل صبغة وطنية مألوفة لدى الشارع العربي. هذه الموجة الموسيقية العربية، لازمتها أعمال غنائية اجنبية انتشرت بشكل لافت وكبير عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حتى أنها طغت عليها، وشكلت مشهدًا غير مألوفٍ في تاريخ الأغنية النضالية الفلسطينية.
مفردات هذا المشهد، تدفعنا إلى تقييم الحالة الفنية والفكرية أمام ردود الفعل الثقافية، العربية والدولية. فالحقائق الظاهرة على تلك المنصات، تترجم تغيرات ثقافية وإنسانية. تغيرات سمحت بشكل تلقائي، بتغذية الوعي العاطفي والأيديولوجي لشعوب العالم، وفرضت لغةً أخلاقية لا تتناسب ومعايير النظرية السامية التي تنادي بها دولة الاحتلال والولايات المتحدة الأميركية. والمساهمة الكبرى جاءت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أن أضاءت فوانيس العالم التي أطفأتها ماكينات الإعلام الغربية، في سبيل الحفاظ على الصهيونية وروايتها أمام مناصريها.
من هنا، انقلب السحر على الساحر. التكنولوجيا والتطور الرقمي اللذان أُنتِجا لتأطير عملية العولمة لمصالح اقتصادية وسياسية، أفرزت بشكل مفاجئ، خلال العقدين الأخيرين، قنوات واقعية سمحت بتحويل المواطنين، في أرجاء العالم، إلى صحافيين ومراسلين ومؤثرين، ما دفع إلى تغيير شكل الاستهلاك، وتدوير الثوابت بشكل براغماتي صرف. وبذلك، أصبحت المكونات الأساسية للتفاعل الإنساني مع القضايا الدولية مكونات غير انتقائية. أي أنها لم تعد ترضخ لهيمنة المؤسسات الإخبارية والمعلوماتية الكبرى. وأصبحت تتكيف مع الوقائع والأحداث، متعددة الجهات والأدوات، بشكل مباشر. لذا، حين نقرأ ردود الفعل أمام نظام عالمي يهيمن على الأخبار والمعلومة مقابل تلك القنوات، تصبح الغلبة لصالح الإنسان والإنسانية التي تبحث عن لغة أو قناة مشتركة تعبر عن آلام الشعوب ومطالبها وحقوقها. والموسيقى، كما لاحظنا خلال العدوان على قطاع غزة، الأداة الأمثل لتوسيع نطاق هذه اللغة.
لذا، فإن تحول المسار الموسيقي في صفحات المناصرين والمؤيدين للشعب الفلسطيني، وحقوقه نحو تحميل الأغاني الأجنبية الأكثر شهرةً، لتكون خلفية لموضوع أو مشهد أو حدث مرتبط بفلسطين، يدل على تحول طارئ في قراءة الشعوب لبعضها بعضاً، ما دفع إلى استعادة أغان أجنبية مخصصة لدعم فلسطين، كأغنية "تحيا فلسطين" السويدية و"فلسطين الحمراء" الإيطالية، و"اسمي فلسطين" للمغني البريطاني غاريت هويت. كذلك، تُستعاد أغان أخرى صدرت إبان عدوان الاحتلال الإسرائيلي على حي الشيخ جراح في القدس الشرقية، قبل نحو عامين ونصف، مثل أغنية We Will Not Go Down للمغني الأميركي مايكل هارت، وWorld Goes Blind للرابر الفلسطيني سامر ماديت.
سمح تسارع وتيرة التضامن، وارتفاع حجم المناصرين في مختلف بقاع الأرض، باستقطاب مؤيدين للقضية بشكل متلازم مع الأعمال الغنائية المرافقة للحدث، واستدعت مساحة الصوت والصورة ليكونا مسرحًا لعالم باتت تتفكك تحت ناظريه المفاهيم الأخلاقية والإنسانية المزيفة، التي أغرقتنا بها الولايات المتحدة وأوروبا. وبالتالي، فإن مظاهر الحركة الغنائية الحديثة، لم تعد مجرد وسيلة للتواصل الثقافي والإنساني، بقدر ما هي أسلوب وقائي يعزز مفاهيم التناسق والتعاضد والتناسخ أمام الحروب الإعلامية والرقمية المضادة للحريات. وهذا ما أصبحنا نشاهده ونلمسه بين صفحات ومنصات وشوارع ومجالس وحكومات تطالب بنصرة الشعب الفلسطيني، واسترجاع حقوقه وأرضه بلغةٍ علت حدتها وصداها بشكل لافت، لدرجة دفعت برئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي السيناتور مارك ورنر للقول: "إسرائيل تفقد تعاطف الناس، ليس فقط في المنطقة، بل حول العالم".
الأغاني الأجنبية بخطابها ومآثرها، أصبحت مسارًا مطلوبًا لتوجيه خيارات ومبادئ ورأي عام، بقدرٍ أعلى وأوسع من أعمال عربية ضيقة الأبعاد والخطاب والتأثير. وبات واضحًا لنا أهمية التواصل اللغوي قبل العاطفي، بين جميع الشعوب، التي تتابع ما يحدث في غزة وفلسطين.
لذا، لم يكن اختيار كاظم الساهر اللغة الإنكليزية، خيارًا مهنيًا، بل مطلبًا عالميًا فرضته شروط اللعبة والمرحلة، ولا سيما أن إنتاج الأغنية تم بالتعاون مع جمعية الأمم المتحدة للموسيقى الكلاسيكية. وسواء نجحت الأغنية أم لم تنجح، يبقى خيار الساهر خيارًا منطقيًا، ناتجًا عن أفضلية تفاعلية فرضتها الاعمال الغنائية الأجنبية والإنكليزية، التي اكتسحت المواقع الإلكترونية.