غارنيكا الإسبانية وسلب الرواية الفلسطينية

11 يناير 2024
من الوقفة التضامنية في بلدة غارنيكا الإسبانية (آندر غيينا / فرانس برس)
+ الخط -

لا تدّخر دولة الاحتلال الإسرائيلي أي فرصة للصق طوفان الأقصى، وما أصاب الكيان، بمآسي العالم الكبرى. فما حدث في السابع من أكتوبر هو "هولوكوست ثان" و"9 سبتمبر إسرائيليّ" و"هجوم داعشي". كوارث وفظائع العالم تسلبها إسرائيل من سياقها وتقارنها بما حصل في 7 أكتوبر، في تجاهل تام لأكثر من 23 ألف فلسطيني استُشهدو في ثلاثة أشهر.
جزء من هذه الحملة يدخل في عالم الفنّ، وهذا ما نراه في لوحات الاوكرانيّة -الإسرائيليّة Cherkassky-Nnadi Grew، التي كبرت في كييف وهاجرت إلى إسرائيل عام 1991، خصوصاً في لوحة "غارنيكا الإسرائيليّة"، التي تستوحي من عمل بيكاسو الشهير لوصف حال الإسرائيليين في السابع من أكتوبر، ناهيك عن تشبيه ما حصل في مهرجان الموسيقى في مستوطنات تل أبيب، بالحرب الروسيّة على أوكرانيا.
لا كلمات تكفي لوصف كمية المغالطات والعلامات المتداخلة للرهان على خطاب الضحيّة، خصوصاً أن المقارنة مع غارنيكا غير منطقية، إلا إن كانت إسرائيل تعتبر سلاح الجو الألماني الذي قصف القرية الإسبانيّة يتساوى مع دراجات حماس الطائرة. بالطبع، وصلت اللوحة إلى نيويورك، وعرضت في "متحف الفن اليهوديّ" هناك، في ذات المدينة التي يحتج فئة من يهودها ضد انتهاكات الاحتلال، رافعين شعار "ليس باسمنا".
أطلق على السابع من أكتوبر اسم "السبت الأسود"، وتحول الأمر إلى اختزال لكل مآسي العالم. بالطبع، كل المآسي عدا تلك الفلسطينيّة، وخصوصاً تلك التي تحدث في قطاع غزّة. المفارقة هنا، أن قرية غارنيكا نفسها امتلأت بالسكان رفعوا علم فلسطين ضمن تشكيل بشري لافت، دعماً لغزة ودعوة لوقف إطلاق النار هناك.
بين اللوحة الإسرائيليّة والقرية الإسبانيّة، هناك إشكالية في نظام التمثيل. ثمة اللوحة الرمز التي حُملت أيديولوجياً، والقرية الواقعية التي اختبرت المأساة وأخذت موقفاً إنسانياً فريداً، والإشكاليّة تكمن في انتشار العلامات؛ لوحة غارنيكا الإسرائيلية قد تجوب العالم، ودخلت المتحف، وقد تصبح جزءاً من تاريخ الفنّ، علماً أن هناك نسخة فلسطينيّة منها.
أما القرية، فينتهي مفعولها التضامني بانتهاء زمن الـReel الذي صُنع عنها والأخبار التي تم تداولها عن الحدث. وهنا بالضبط يتضح مفهوم السلب الثقافي، وهو حين تمارس قوة استعمارية ذات سلطة عالمية أثرها على السردية الحالية وعلى التاريخ، لتعيد صياغته الآن أمام أعيننا جميعاً، ولاحقاً لن يبقى أثر إلا لما احتفظ به المتحف.

حول العالم
التحديثات الحية

ما لا يمكن إنكاره، أنه على الرغم من محاولات الاحتلال سلب القضية الفلسطينية سياقها، وحشرها ضمن نظريات المؤامرة واليمين المتطرف والأصوليّة، إلا أن مقدار الكذب والبروباغندا، كشف هشاشة التقنيات الاستعماريّة، وحوّل القضية الفلسطينيّة إلى شأن "رائج" و"شبابي" يتم تداوله في الجامعات، بل وقضية تنتصر -للمفارقة- للصوابية السياسية والحق بالتحرر من الاستعمار. هناك أجيال جديدة من الطلاب وجدت نفسها مقابل قوة استعمارية-سياسية تسببت باستقالة أول امرأة سوداء من رئاسة جامعة هارفارد. لم تعد المظلومية الإسرائيليّة و"حق الدفاع عن النفس" حججاً سريعة قادرة على إسكات الأصوات التي تنتقد إسرائيل.
بالعودة إلى المتحف، لا يمكن القول إلا إننا أمام إضافة جديدة إلى التاريخ الاستعماري للمتاحف الأوروبية والأميركية، تلك المليئة للمفارقة، باللوحات التي سرقها النازيون من اليهود، والمستعمرون من الشرق الأوسط وأفريقيا، وإن كانت صورة الضحية وتمثيلها سيقتصران على هذه المتاحف.

يمكن القول إن ما أقدم عليه سكان قرية غارنيكا هو الأكثر وطأة وتأثيراً، ألا وهو الاحتجاج على الأرض، والانتصار للضحية الفلسطينيّة باحتلال الساحات والإنشاد والهتاف، وليس الوقوف بصمت أمام لوحة في المتحف، تحوي من التناقضات ما لا مساحة لتفسيره وشرحه.

المساهمون