عودة صوفيا لورين (1934) إلى الشاشة الكبيرة دعوة إلى مُشاهدة جديدٍ لها، ينتظره كثيرون. شيخوختها غير مانعةٍ عنها ظهوراً، يراه البعض مُحبَّباً، ويريده بعضٌ آخر بشغف. تمثيلها عاديّ، لكنّ هناك من يعتبره الأفضل، فالذاكرة فاعلةٌ في راهنٍ يومي، وتاريخ المرأة الممثلة النجمة الرائعة حافلٌ بلحظات غير منسية البتّة، والآنيّ يتألّق بها عند مثوله أمامها، أو عند تجسيدها إياه.
يحمل جديدها السينمائي عنواناً مُثيراً لتأمّلات، تُسعفها متابعة مسار النصّ وحكاياته بكثيرٍ من الألفة والانفعال والمتعة (رغم أنّ معظم هذا يخرج على السينما ويصبّ في نجومية ممثلة وحضورها). العنوان نفسه "حمّال أوجهٍ"، فترجمته إلى لغات عدّة تمنح المهتمّ معاني عدّة، يبقى الأصل (العنوان الإيطالي) أساسيّ بينها، وإنْ يُقْتَبس الفيلم من رواية فرنسية. العنوان يقول بأنّ "الحياة أمامه"، مع أنّه يُتيح تفسيراتٍ عدّة، تؤدّي كلّها إلى معنى أساسيّ، ينتبه إليه مُشاهدٌ يفصل بين نجومية صوفيا لورين، وأفكار روايةٍ مقتبسة إلى السينما، لمرة أولى، قبل أعوامٍ.
La vita davanti a sé يعني، ببساطة، أنّ "الحياة أمامه". الرواية فرنسيةٌ بعنوان مشابه للإيطالية، لكاتب يُدعى رومان غاري (1914 ـ 1980)، يُصدرها باسمٍ مستعار: إميل أجار. الإسرائيلي موشي مزراحي يقتبسها أولاً للسينما، عام 1977، بعنوان "مدام روزا"، مع سيمون سينيوري، مؤدّية دور مدام روزا، الذي تؤدّيه صوفيا لورين بعد 43 عاماً. للرواية عنوان إنكليزي: "مومو" (1978)، إحدى الشخصيات الأساسية، التي تختصر اسم محمد، الصبيّ السنغاليّ الواصل إلى إيطاليا عند بلوغه 3 أعوامٍ، والذي ـ في الاقتباس السينمائيّ الجديد (2020) للرواية، بتوقيع المخرج الإيطالي إدواردو بونتي (1973)، ابن صوفيا لورين من زوجها المنتج كارلو بونتي (1912 ـ 2007) ـ يُشكِّل محوراً أساسياً في الحبكة والتمثيل والفضاء الدرامي والمتتاليات الجمالية، المشغولة كلّها بحِرفية سينمائية لن تُبِهر كثيراً، ولن تُثير مللاً، في آنٍ واحد.
تتداخل حكايتا روزا ومومو، إحداهما بالأخرى. بل إنّ حكاية روزا تُروى من خلال حكاية مومو. التمرّد والتشرّد في شوارع "باري" الإيطالية يدفعان مومو (إبراهيم غِيي) إلى أعمالٍ غير شرعية، كبيع المخدرات. الطبيب كوين (ريناتو كاربنتياري) مسؤول عنه، لكنّ ثقل السنين عليه تجعله "يترجّى" السيدة روزا لاستقباله في منزلها، ورعايته والاهتمام به، فهو محتاج إلى لمسة أنثوية في حياته. روزا مومس سابقة، وناجية من المحرقة النازية، تُصاب أحياناً بشرودٍ يُبعدها عن الواقع دقائق متتالية، تنظر خلالها إلى غير المرئيّ، وتُصاب حينها بلوثة الغياب المؤقّت، كأنّها تتمرّن على الغياب الأخير.
الصدام سمة اللقاء بين روزا ومومو، فالأخير يسرق منها شمعدانَين، قبل أنْ يُعيدهما إليها رفقة كوين. لاحقاً، تتحسّن الأحوال بينهما، إذْ يبدو أنّ كل واحد منهما يرى في الآخر امتداداً له، أو سنداً أو عزاءً أو كسراً لوحدةٍ قاتلة، مع أنّ روزا ترعى صبيين اثنين آخرين أيضاً، أحدهما يهوديّ تتخلّى والدته عنه زمناً قبل استعادته، بينما والدة الثاني، المتحوّلة جنسياً (أبريل زامورا)، تزور ابنها دائماً، وعلاقتها وطيدة بروزا. شخصيات أخرى تظهر في حياة مومو، خصوصاً السيد هاميل (باباك كاريمي)، بائع السجّاد وعاشق الكتب، الذي يُحرِّض مومو، بهدوء وروية، على التطلّع إلى الحياة والناس والعلاقات بنظرة مختلفة تماماً عن تلك التي يعتمدها في يومياته.
يمتلئ "الحياة أمامه" (تعرضه "نتفليكس" بدءاً من 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020) بأفكار خاصّة بتقبّل الآخر والتسامح والتواصل. الشخصيات الأساسية موزّعة على الديانات السماوية الثلاث، وألم المحرقة يطغى على غيره. بائع السجّاد، غير المتمكّن من الزواج بروزا لأنّها يهودية، يقتبس من القرآن كلاماً عن الحبّ والإيمان والمغفرة. يوميات هؤلاء جميعاً تتشابه، لكنّ التغيّر حاصلٌ في ذات مومو وروحه، إلى درجة التعلّق الكبير بروزا، فيُرافقها في رحلتها إلى الموت، ويُحقِّق أمنيتها بعدم البقاء في المشفى، تحت رحمة أطباء ترفضهم.
فيلمٌ سلس وبسيط وعاديّ، يجنح إلى أفكار التسامح في زمن التشدّد والعزلات، ويُقدِّم دوراً لصوفيا لورين في شيخوختها، العاجزة عن الحؤول دون متعة مُشاهدتها، سيّدةً على شاشةٍ تعكس بعض أحوال الدنيا وانقلاباتها.