عن مآزق السينما المغربيّة: رقابةٌ تصنع التقليد وتُحرِّم الجسد وصورته

07 أكتوبر 2020
نبيل عيّوش: لقطات قليلة تُحرّض عليه (فاضل سنّا/فرانس برس/Getty)
+ الخط -

سؤال الرقابة في السينما المغربيّة والعربيّة مُربك. أساساً، له علاقة بمفهوم الجسد، بألوانه وتجلّياته وتمظهراته الشاسعة والمُركّبة في بنية المرئيّ. فكرياً، إنّه أكثر المواضيع حساسية في المجتمع المغربي، لأنّ الجسد صورة قبل كلّ شيء، كما فَطِنَ إلى ذلك المفكّر عبد الكبير الخطيبي، ما جعل الموضوع ذا نزاع تاريخيّ فقهيّ، بلورته الثقافة العربيّة الوسيطة حول مسألة تحريم الصورة ومُتخيّلها، ولا يزال يُمارس سلفيّته على السينما إلى اليوم في ما يُسمّى "التابو"، أو الرقابة التي تخضع الأعمال السينمائية لقوانينها الزجرية المعطوبة. والقوانين ـ التي تنمّ عن استمرار الديكتاتورية السياسية، والتنصّل من المواثيق الدولية المُرتبطة بحرية التعبير ـ حرّمت أفلاماً سينمائية عدّة من العرض في صالات سينمائية مغربيّة، بدعوى عدم التزامها الأخلاق العامة والتقاليد الوطنية، فحُرِمت الدعم الوطني، ومُنعت من منح مُتعٍ سينمائية للجمهور المغربي، المُتعطّش إلى أفلامٍ كهذه، لا تُقيم حدوداً بين التخييل وراهن المجتمع المغربيّ، ومكبوتاته السياسية والاجتماعية، ونزواته الذاتية المُرتبطة بالحبّ والألم والجنس، وغيرها.

نتيجة للاحتقان والمنع، اللذين طاولا مفهوم الجسد في السينما المغربيّة، نشأ تياران يتعارض أحدهما مع الآخر: يدعو الأول إلى سينما نظيفة خالية من التعبير الجسدي، تُراعي عادات المغاربة وتقاليدهم، وتتنصّل من أيّ دعوة إلى الحرية وإبداع أنماط سينمائية لا تلتزم الشروط التاريخية للبلدان العربيّة. تزعّم هذا التيار التقليدي فقهاء مغاربة عديدون، عارضوا هذا النوع من السينما. أما الثاني، فتبنّاه مخرجون ونقّاد وجمعيات مجتمع مدني، طالبوا بضرورة تقييم الأعمال وفهمها والاستماع إليها وإلى ما تقترحه على السينما المغربيّة من تجديد في تخيّل صُوَر المجتمع المغربي، وتمرّدها شكلاً وموضوعاً، قبل منعها، والمنع هذا متأتٍّ أحياناً بسبب تسرّب مَشاهد قليلة من فيلمٍ ما إلى وسائل التواصل الاجتماعي، كما حصل مع "الزين اللي فيك" لنبيل عيّوش.

هذا جعل مخرجون مغاربة يفكّرون لحظة الكتابة في ضرورة حذف مَشاهد حبّ وجنس، وإنْ احتاجت تلك المشاهد أحياناً إلى لحظات حبّ وجنس، كي لا يتعرّض الفيلم للمنع، فيُقصَى عن الدعم وتُعاد كتابته مجدّداً. هذا أثّر كثيراً بمسار السينما المغربيّة، وحَكَمَ عليها بالتقليد والوهن والانحسار الإبداعي الرهيب في بناء الصُّوَر وتخييلها بكلّ حرية، وفي تسلسلها في بنى المَشاهد، رغم جدل كبير أحدثه نقّاد ومخرجون مغاربة قلائل عبر الصحافة المغربيّة، التي تكتّم بعضها عن مناقشة هذا الموضوع الشائك. هؤلاء لم يتنازلوا عن المَشاهد السينمائية، متحمّلين مسؤولياتهم إزاء الدعم والعرض في الصالات الوطنية والمهرجانات المحلية.

 

 

الرقابة تلاحق الفيلموغرافيا المغربيّة، جاعلةً إياها فولكلوراً تاريخياً، وأسيرة فكرٍ تقليديّ مُتشنّج، لا يُتابع التطوّرات اللاحقة بالسينما المغربيّة الجديدة، وقدرتها على التقاط تفاصيل واقعٍ منكوبٍ لا يعرفه المغاربة أنفسهم. فللرقابة دور سيّئ في تأزيم السينما المغربيّة، وجعلها مُبتذلة وكاذبة، وبعيدة عن المجتمع المغربي ومشاغله اليوميّة البسيطة في علاقته بالعالم والوطن والسياسة والمرأة والآخر. مثلٌ على ذلك: أثار "الزين اللي فيك" جدلاً واسعاً بعد تسريب مَشاهد منه، إذْ هاجم سياسيون وصحافيون المخرجَ عيوش، ومشاركون ومشاركات فيه. لقطات قليلة للغاية نالت أكثر المُشاهدات على "يوتيوب". أما قرار الرقابة بمنعه، فأجّج الفيلم في مخيّلة الناس، وجعلهم ينتظرون مشاهدته، بعد أنْ حظي بهذا الجدل كلّه في الصحافة المغربيّة، وتدخّلِ وزراء وسياسيين في منعه، لأنّه لا يتماشى مع قناعاتهم وعاداتهم وتقاليدهم.

عامل آخر مُجحف تُمارسه الرقابة المغربيّة، غير منعها عرض أفلامٍ: التدخّل القسري فيها، بحذف مَشَاهد منها لأسبابٍ جسدية أو سياسية أو دينية، فتُعطَب الأفلام في بناها وأساليب تشكّل صُوَرِهَا، ويُحكَم عليها بالوهن والتقليد في نسج وإنتاج صُوَر مُكرّرة. هذا عاملٌ لا يُساعد السينما المغربيّة على البروز في السينما العربيّة، وعلى اختراق المكبوت السياسي والاجتماعي والثقافي للمجتمعات بجرأة ومسؤولية، علماً أنّ معالجة فيلم عيّوش لموضوعه قاصرة ومُرتبكة، وكتابته آليّة على مستويي المُعجم والشخصيات، إذْ لم يتجاوز الأسلوب الآلي في نقل الواقع، ولم يعمل على تخييله، مقارنة بأفلامٍ تونسية، عملت على تذويب "التابو" في بُناها الجمالية، المُرتكزة على قوّة الحدث والمؤثّرات الصوتية والبصرية بذكاء يستقطب حواس المُشاهد ويستفزّه، من دون أنْ يدفعه إلى تكوين آراءٍ هجومية ضدها. هذا جعل السينما التونسية أكثر تحرّراً في البلاد المغاربيّة، مقارنة بالمغرب والجزائر.

مسألة الرقابة نابعة أساساً من عطب تاريخيّ في الثقافة العربيّة الوسيطية، حول تمثّلها لمفهوم الجسد، وعدم قدرتها على التفريق بين الجسم الطبيعي والآخر الجمالي، الذي لا علاقة له بالأول، لأنّ الثاني مجرّد "سيمولاكر" لجسدٍ تخييليّ. كذلك إنّ ارتباط مفهوم الجسد بالصورة، في الثقافة العربيّة ومعاجمها، أدّى إلى تأزيم تصوّر الثقافة، وأجّج معها فكرة أنّ الجسد، كيفما كانت تمظهراته في التشكيل والسينما والفوتوغرافيا وغيرها من الفنون البصرية، صورة، وجب تحريمهما (الجسد والصورة).

المساهمون