عن "قتلة زهرة القمر" مُجدّداً: الاستغفار المتأخّر والغفران اليائس

29 يوليو 2024
دي كابريو وغلادستون في "قتلة زهرة القمر": أداءٌ أهمّ من "أوسكار" (الملف الصحافي)
+ الخط -

مثيرٌ للاستغراب عدم نيل "قتلة زهرة القمر" (2023)، لمارتن سكورسيزي، جائزة "أوسكار" مُعتَبَرة، في النسخة 96 (10 مارس/آذار 2024) لجوائز "أكاديمية علوم الصورة المتحرّكة وفنونها"، رغم امتلاء قائمة صنّاعه بمحترفين بارزين. لكنّ مشاهدة الفيلم (206 دقائق)، المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه (2017) للصحافي والكاتب الأميركي ديفيد غران (سيناريو مشترك بين سكورسيزي وإريك روث)، تُبيِّن أنّه مرتبك بطريقة لا تُحصَر، لا دلالة عليها بملاحظات وتحليلات تقنية صرفة.

فسكورسيزي هو مَن هو. كذلك روبرت دي نيرو وليوناردو دي كابريو. إنّهم من علامات هذا الفن، ومن خبرائه العريقين. هذا حال الدراما البصرية أيضاً، التي، حتى مع اكتمال عناصرها، تتعرّض للنقد، ولقبولٍ ورفضٍ، ولما بينهما من ردود أفعال متباينة.

"قتلة زهرة القمر" فيلمُ محتوى أولاً، رغم معرفةٍ بمهارات باهرة في ابتكار مخرجه، الذي وقع في اعتذارية متكرّرة في أفلام الإبادة الأميركية للسكّان الأصليين. هذا يحتاج إلى بحوث استقصائية، مليئة بتفاصيل وزواريب تفضي إلى إدانة جنائية، يتوقّف الفيلم على أعتابها.

التفاصيل كثيرة، يبدو أنّ الفيلم مُضطرٌّ إلى نقلها، ما أدخله في مفاضلة أولويات وازدحام حدثٍ، إلى درجة أنّ مدّته غير كافية لسرد الدقائق الجنائية الحاسمة. لذا، لجأ سكورسيزي في النهاية إلى الاختصار، بتصوير نوع من المسرح الإذاعي، في محاولةٍ لإقفال دائرة الدراما، ثم إلحاقه بـ"فويس أوفر" لشرح ما يحصل. هذه نقطة ضعفٍ حقيقي، في فيلمٍ ذي مستوى عالمي، إضافة إلى كليشيهات متكرّرة في الفيلم الأميركي المعتاد، كدخول عملاء "المكتب الفيدرالي للتحقيقات (FBI)" باعتبارهم خطّاً رئيسياً في الحكاية البصرية، ما ينهي الفيلم باكراً.

الحكاية تتلخّص في سرد واقعة إبادة جماعية، تتعرّض لها قبيلة "أوساج"، من السكّان الأصليين لأميركا، التي تُطرد من أراضيها، فتحلّ في أرضٍ جديدة تفجّر فيها النفط، الذي تُقسَم عوائده، "بشكل احتيالي"، على أفرادها. هذا حوّلهم إلى مُحدثي نعمة، يتمّ التحكّم في مصاريفهم وتضخيمها تضخيماً فاحشاً، إضافة الى الزواج من صباياهم ووراثتهنّ بعد "موتهنّ"، الذي يقوم الرجل الأبيض بتسريعه، إلى حدّ القتل. لكن (هذه الـ"لكن" الأميركية)، ليس جميع البيض من طينة الرجل الأبيض، فهناك من هو على عشق حقيقي (دي كابريو)، ولا يرضى بإزالة زوجته وأم أولاده من الوجود. مع ذلك، يسقط في أحابيل الملك (دي نيرو) مُجبَراً، ويشترك في جرائم عدّة مرتبطة ارتباطاً عضوياً بجريمة الإبادة التي حصلت برعاية هذا الملك، الذي يدّعي الحنان، ويغدقه على قوم (أوساج).

من هنا تأتي مفارقة دراما الفيلم، حيث يتمّ الجدل بين الحقيقي والمزيّف في النيات تجاه المُبادين من بشر "أوساج"، الذين يصدّقون ببراءة، أو عن طمع بدائي، هؤلاء البيض، الذين تحكمهم الخطط الباردة الصماء عن كلّ عاطفة، ليأتي علاجٌ (FBI) يزيد من هذه القضية برودةً وصمماً. هكذا تبدو اعتذارية الفيلم المتأخّرة: باردة وصماء وبلا معنى.

 

 

على الضفة الثانية، في الفيلم ذي التفاصيل الكثيرة والمتقطّعة، هناك مسألة الأداء التمثيلي الباهر، الذي تحلى به ثلاثي البطولة: دي كابريو (إرنست بوركْهارت) ودي نيرو (ويليام كينغ هال) وليلي غلادستون (مولّي بوركْهارت). عمل دي كابريو على جوّانيات الشخصية التي تتفتّت رويداً، على صعيد جرائمها، كما في ما يخص حبّه لزوجته، بتقديمه الجرائم والحبّ بسخونة باهرة، بفضل وجهه وانفعالات حجر العين القلقة والمتوترة إلى الأقصى، إذْ أصبح وجهه مشابهاً لصراع المشاعر التي تنتابه. بهذا، لا يُمكن مقاربته مع دي كابريو فتى الشاشة الوسيم، الذي اعتاد المُشاهد حضوره على هذه الحال. بموازاته، كان دي نيرو يؤسس اشتباكاً إبداعياً في الأداء، مُحوّلاً إياه إلى لعبة "بينغ بونغ"، لا تسقط الكرة فيها على الأرض بتاتاً. النتيجة، التي برمّتها لصالح المُشاهِد، أجاد فيها الطرفان بطريقة قياسية. وإذا أضيف الأداء الباهر لغلادستون، يمكن فهم الاستغراب بعدم حصول "قتلة زهرة القمر" على أي "أوسكار" عن التمثيل الرائع.

أخيراً: هل بقي من قوم "أوساج" أحدٌ ليتقبّل هذه الاعتذارية السينمائية، أو يرفضها؟ هل الاعتذارية وأمثالها ستغيّر مجريات التاريخ أو المستقبل؟ يُرجَّح أنّها لن تؤثر بشيءٍ، ما دامت ذهنية التكسّب باقية على البرود والقسوة هذين، والسينما نفسها، كشركات، تمارس العقلية نفسها، رغم كلّ هذا الكَمّ من الأفلام الاعتذارية من الضحايا، خاصةً في ما تعنيه صناعة الأسلحة، التي يمكن اعتبارها الجناح الثاني لصناعة الكراهية، الناتجة عن صناعة التكسّب من دون أي رادع، فمنطق القوّة يفرض نفسه.

على هذا، يمكن مُشاهدة فيلم مارتن سكورسيزي، بإدخال عنصر الـFBI باكراً، مُبشّراً بالقوة الموازية المنطقية التي يمكنها كشف الجرائم، ونسبها إلى أصحابها، إذْ لا مانع من الإبادة ما دامت هذه القوة "العادلة"، التي تكتشف الأمر وتعالجه ولو متأخّراً متوفرة، ما يُعيد الحقّ إلى نصابه، من دون التأكّد من حقيقة هذا الحقّ، وأحقيّته.

"قتلة زهرة القمر" أخّاذٌ بتفاصيله الروائية، وتفاصيل صنعه، إلاّ أنّه يحتاج إلى أكثر بكثير من 206 دقائق، لإقفال هذه المَشاهد المنتمية إلى نزعات بشرية متنوّعة، ربما تدمّر النزعة الإنسانية بالخطأ.

المساهمون