عن عنفٍ في السينما: ماكياج فظيع لواقع أفظع

30 اغسطس 2024
"فتاة جيدة للقتل": نموذج جديد لوفرة أعمال عنفية مُربحة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

بالضغط على ملصق فيلمٍ أو سلسلة، في منصّة مشاهدة مدفوعة، يظهر التنبيه: لغة بذيئة. مخدرات. عنف جنسي. عري. عنف.

هذه أوصاف المسلسلات والأفلام الأكثر مشاهدة في المغرب على "نتفليكس". بدأ عرض A Good Girl’s To Murder، لدولي ويلس وتوم فوغان، في 1 يوليو/ تموز 2024. بحسب إحصاءات المنصّة، المُرفق مع ملصق المسلسل وبطاقته التقنية، نصح 97% من مشاهديه غيرهم بالمشاهدة. مع هذا التصويت الديمقراطي الإلكتروني، يصعب على أفلام العنف المتفلّت أنْ تصمد في سوق التسلية الدموية.

تَعرض أفلام الرعب تنافساً دموياً شرساً. السكين والفأس والسيف والمسدس أكسسوارات أساسية في أفلام ومسلسلات، تعرض عنفاً منفلتاً وحشياً يشدّ المتفرّج. تغيّرت النظرة إلى العنف، أي الحرب والجريمة والاغتصاب والاعتداء. فبدلاً من تصنيف العنف كفوضى وخراب وضرر، أو كعبثٍ، صار أداةً وحيدة فعّالة لتحقيق الأهداف، وحَلّ المشاكل، وحسم الصراعات. في سياق كهذا، ينظر المشاهدون إلى تطبيق العدالة كمشكل، لا كحلّ.

تحاكي "لعبة الحبار" (سلسلة، 2021، كتابة وإخراج هوانغ دونغ هيوك)، أجواء حياة أشخاص غارقين في الديون. يموت المشاركون، وتسيل منهم دماء قانية. الماكياج دموي فظيع، لكنّ الواقع أفظع. تعلن "نتفليكس" أنّ موسمها الثاني سيُعرض بدءاً من 26 ديسمبر/ كانون الأول 2024. كما تعلن قُرب بدء عرض سلسلة مقتبسة من رواية غابرييل غارسيا ماركيز "مائة عام من العزلة". البداية ببنادق فصيلة الإعدام في ماكاندو.

بِمَ يُفسّر الناقد السينمائي إقبالاً تلقاه أفلام العنف المنفلت ومسلسلاته؟ كيف يقارب القسوة بين الواقع والتمثيل؟ تُصنِّف الصحافة قتل شخص في الواقع بأنّه "حادث مؤسف". يُسمّى مقتل شخص في فيلم فنّاً. يحاكي العمل الفني الواقع. يقول جون ساذرلاند: "تجربتنا في الدراما تتطلّب أيضاً مهارات معينة عندنا بوصفنا نظارة، تتعلق بكيفية استجابتنا وتقديرنا للأداء، والحكم عليه" ("مختصر تاريخ الأدب"، ترجمة محمد درويش، "دار الكتب العلمية"، بغداد، 2018، ص 63). يبدو أنّ هناك تطابقاً بين توقّعات المَشاهد الدموية وما يُقدَّم من عنف. لذا، يشعر المتلقّي بالمتعة. إنّها السادية.

المَخرْجات الفنية العنيفة تطابق طبيعة مدخلات التلقّي لدى الجمهور في تصوّره للعالم. من يفهم العالم كغابة سينتظر من بطل السلسلة أنْ يكون عنيفاً قاتلاً. وحدهم الأنبياء المسلّحون ينتصرون.

هذا المشترك معلومٌ لمخرجي أفلام العنف. كيف يُدبّر المخرج شهوة الجمهور، الذي يريد أنْ يرى ويسمع ويعلم؟ جواب المخرج: "لتكن كلّ لقطةٍ لكمةً في وجه المتفرّج". النصيحة لمارتن سكورسيزي، مخرج التحفة الدموية "عصابات نيويورك" (2002). يدلّ هذا على أنّ المتفرج عدوّ، وهذا يُهندِس الحبكة مهما كانت: "الحبكة التي يختارها مدراء الإنتاج" ("جدل التنوير ـ شذرات فلسفية"، ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو).

 

 

يعرف مدراء الإنتاج والمخرجون طبيعة الجمهور، الذي يستجيب عاطفياً لا منطقياً. خطابياً، تَذمّ الأخلاق السائدة العنفَ والردّ على الشرّ بالشر، وتوصي بالسلم وتقديم الخدّ الأيسر لمن يصفع الأيمن. هذه الأخلاق، التي سمّاها نيتشه "أخلاق الضعفاء"، لا مكان لها في السينما. الدليل: مشاهدون يتقبّلون تحوّل البهلوان (الجوكر) إلى قاتل ومصاص دماء. هذا العنف يكشف واقعاً. تجري المشاهدة باستثمار الخبرات والمعارف والأحكام المسبقة، وتُشرعن ما يُرى من عنفٍ.

تحقّق مسلسلات القتل المتسلسل أعلى المشاهدات. تُظهِر المَشاهد عنفاً مباشراً: قطع أذن، أو كَيّ شخص. مَنْ شاهد قطع أذن زوجة الأمير، التي حبلت في غيابه (مسلسل "فايكنغ"، 2013، تأليف مايكل هيرست، إخراج يوهان رينك وهيلين شاف)؟ رأى الجمهور الأذن في يد الجندي، ورأس الأميرة من دون أذن. ارتفعت أصوات الاستحسان. عبّر الشهود الحاضرون عن فرحهم بعقاب جسدي، فانتقلت عدوى الفرح إلى مشاهدي المسلسل.

هكذا تصنع ألفة العنف الدموي الفني المُصوّر لامبالاة تجاه العنف الحقيقي، كالحرب والجوع.

هل أصبح المشاهدون ساديين، يستمتعون بالقتل؟ والمُشاهد الذي يستمتع بالدم، أهو شخصٌ سوي؟ نعم. إنه سويّ، بدليل أنّه ليس وحده الذي يشعر بالملل إن لم يسل الدم. تفترض السيكولوجيا السائدة أنّ الحسود ساديٌّ، يستمتع بعذاب من يكره. العنف مُسلّمٌ به في السياسة اليوم. تجاوزت ممارسات يفغيني بريغوجين (1961 ـ 2023)، زعيم "فاغنر"، كُلّ حَدّ. جنى الزعيم الدموي ما فعل.

كيف ينعكس العنف على مزاج مشاهديه؟ هل تجعل جماليات العنف وفرجته مشاهد القتل مألوفة للمشاهد السادي؟ كيف سيحقّق هذا العنف الـ"كاتارسيس" الأرسطي؟

يُمكن فهم العنف الطبقي، الذي مارسه الأسياد لإخضاع أقنانهم في حقول العصور الوسطى. لكنّ عنف الأشباه في ما بينهم، في المدينة المعاصرة، غامض الدوافع، إلّا إنْ يكن العنف حاجة سياسية وفنية ووجدانية لدى البشر.

في مُقرّر الفلسفة، في صفّ البكالوريا، تعلّمتُ أنّ القرن الـ18 عصر الأنوار والحرية، والمؤمن المستتر إيمانويل كانط (1724 ـ 1804)، سيّد المرحلة. أمضيتُ عمري أمجِّد عصر الأنوار، باعتباره خروج الإنسان من قصوره الذي هو نفسه مسؤول عنه. أردتُ عيشه، ثم اكتشفت أنّ هذه مجرد حكاية مثالية. اكتشفتُ أنّ الماركيز دو ساد الشهواني (1740 ـ 1814)، أشهر من كانط العقلاني، حسن النية. الدرس الفلسفي المثالي مفصولٌ عن سياقه الثقافي ـ الاقتصادي، لذا قَلّ مفعوله في فهم الوضع البشري الحالي.

المساهمون