استمع إلى الملخص
- تتناول الأفلام مفهوم "الأشباح" و"الذاكرة"، حيث يعبر فيلم زواهري عن منع النسيان بالعودة إلى حمص، بينما يروي فيلم مييه قصة حميد ومعاناته من جروح السجن وفقدان عائلته، مما يعكس جروحاً نفسية عميقة.
- يختزل فيلم "الأشباح" معاناة السوريين من خلال شخصية حميد الساعي للعدالة، بينما يوثق زواهري لحظات من حياة حمص، وتطرح المشاهد الأخيرة تساؤلات حول إمكانية التحرر الكامل من الماضي.
عروضٌ عدّة لهما عام 2024 دليلٌ على أنّ الهمّ السوري، المتمثّل بحربٍ وتشريد وتغييب (سجن، قتل، إخفاء) وتهجير ومطاردات، وبأشياء أخرى منبثقة من حربٍ كتلك، ماثلٌ في تفكيرٍ فرديّ، يستعين بالسينما ليروي شيئاً من تفاصيله، ويلتقط بعض نبضه، ويوثِّق يوميات أفراد وحالات أناسٍ، في سورية وخارجها. أمّا بعض الروائي "المتخيّل"، المستمِدّ مادته/حكايته وشخصياته ومناخاته من وقائع حيّة، فيوثِّق الحاصل في فردٍ وجماعة وبلد.
قولُ هذا منبثقٌ من سؤال مطروح، مراراً، قبل أكثر من عام: لماذا تغيب سورية عن السينما، بعد طغيان حضورها في أفلامٍ كثيرة، غالبيتها وثائقية، مُنجزة في الأعوام القليلة الأولى لانتفاضة شعبية مدنية وسلمية (18 مارس/آذار 2011)، يشنّ عليها نظام بشّار الأسد حرباً مديدة؟ الفيلمان الجديدان (إنتاج 2024)، "ذاكرتي مليئة بالأشباح" للفلسطيني السوري أنس زواهري (العربي الجديد، 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) و"الأشباح" للفرنسي جوناثان مييه (العربي الجديد، 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2024)، يُشكّلان إجابة، ولو مُختصرة، عن السؤال ذاك: سورية في البال السينمائي باقيةٌ، وحكاياتها الكثيرة محمولة في أفئدة ناسها وأرواحهم، وفي تفكير آخرين وأخريات غير سوريين أيضاً، وصُنع صُورٍ لها وعنها (الحكايات) غير مُنتهٍ، وإنْ يفقد زخم الأعوام الأولى.
إنْ تكن مفردة "الأشباح" مشتركاً ظاهراً بين العنوانين (إنّها العنوان الكامل لفيلم مييه)، فإنّ كلمة "ذاكرتي" في عنوان فيلم زواهري غير غائبة كلّياً عن نصٍّ سينمائي آخر يروي، بالتوثيق والسرد الحكائي والتمثيل، شيئاً من فظائع الجُرم الأسديّ، لأنّ حميد (التونسي آدم بيسا) يبدو كأنّه يقول، في مواربة درامية جميلة وقاسية، إنّ "ذاكرتي، أنا أيضاً، مليئة بالأشباح"، تماماً كما يكتب زواهري في بداية فيلمه، إذْ إنّ عودته إلى حمص، "مدينتي القديمة"، تهدف إلى منع النسيان من النيل منه، كما ليصنع لنفسه "ذاكرة مما تبقى"، فإذا بالأشباح تملأ ذاكرته.
ذاكرة وأشباح: مفردتان أساسيتان في نصّين بصريين (روائي/توثيقي ووثائقي)، وفي شخصيتين، إحداهما حقيقية (زواهري) والأخرى (حميد) مكتوبةٌ للسينما استناداً إلى حقائق ووقائع سورية. جُرح حميد عميقٌ في ذاته وروحه (ثلاثة أعوام في سجن صيدنايا، تُقتل زوجته وابنتهما خلالها)، ولا خلاص له من ألمٍ وغضبٍ وانهيار إلاّ عبر ثأر له من جلادٍ (هكذا يظنّ)، ومن دفنٍ رمزي لهما (هذا تقوله له معالِجَة نفسية غير ظاهرة أمام الكاميرا)، إنْ يكن في هذين الثأر والدفن خلاصاً فعلياً ونهائياً. وجُرح أنس زواهري عميقٌ أيضاً، يدفعه بالتالي إلى عودة يريدها تحصيناً للذاكرة من موتٍ أخير، فيكون اشتغاله البصري أشبه بثأر من النسيان قبل أنْ يحلّ، وبدفنٍ رمزي لأشباحٍ ستملأ ذاكرته، إذْ لا مفرّ من هذا، وهذا يُمهِّد لمواجهتها قبل خلاصٍ منها، لن يكون بدوره نهائياً.
حميد، في "أشباح" جوناثان مييه، يختزل سوريين وسوريات كثيرين، يعانون ألماً ويعيشون غضباً ويقعون في انهيار. لكنّ الثأر ربما لن يكون مُحرّكاً لهم ولهنّ، فلكلّ فردٍ اشتغالٌ يرتاح إليه لخلاصٍ مطلوبٍ. أنس زواهري، بحمله كاميرا توثيقية يتجوّل معها في مدينته القديمة حمص، يُشبه سوريين وسوريات كثيرين أيضاً، يريدون للذاكرة حصانة مديدة وفاعلة من نسيانٍ، يسعى جلاّدو الأسد إلى تفعيله بالقتل والتهجير والتغييب والتعذيب، ولكلّ منهم ومنهنّ أسلوبٌ في تحصين ذاكرته الفردية على الأقلّ من نسيانٍ، سيكون أقسى من ألمٍ وغضبٍ وانهيار، أو متساوياً وإياها كلّها بالقسوة، الأشدّ (غالباً) من قسوة التعذيب المادي (القتل) والمعنوي (تهجير وتغييب قسري، وما يُشبههما).
إنْ تكن مهمّة حميد الإيقاع بجلاّده، ثم تسليمه إلى عدالة بعد جَمْع مستندات ووثائق تدينه عملياً، فإنّ مهمّة أنس زواهري توثّق لحظة مُمتدّة في أعوامٍ عدّة، ومدينة تحاول استعادة حياة، وأناساً يبقون فيها فيعيشون في الحدّ الأقرب إلى موتٍ مؤجّل ومع ذكريات حيّة، لكنّها قاهِرة. وإذْ يبدو حميد، في نهاية "الأشباح"، كمن يحصل على مبتغاه، بعد رحلة تقوده إلى جحيمٍ يُشبه جحيم صيدنايا، أو بعضه على الأقلّ، فإنّ أنس زواهري يبلغ حدّاً مقبولاً من راحة ما، بتحقيق "ذاكرتي مليئة بالأشباح"، وتحقيق كهذا كافٍ (إلى حدّ كبير) كي تُصان الذاكرة، ويُحارَب النسيان.
المشهد الأخير في "الأشباح" (دخول حميد إلى قاعة محاضرات في جامعة، فهو أستاذ الأدب العربي) يقول إنّ خلاصاً ذاتياً حاصلٌ (هل يتحرّر المرء فعلياً وكلّياً من أشباح ماضيه القاسي والغاضب والقاهِر؟). أمّا المشهد الأخير في "ذاكرتي مليئة بالأشباح" (جولة لكاميرا، مُعلّقة على سقف سيارة أو شاحنة صغيرة، تُصوّر شوارع خالية وأبنية مهجورة وفراغاً قاتلاً) فيُفيد أنّ تحصين الذاكرة من الضياع مُحقَّقٌ، لكنّ اللقطات تبدو كمن يطرح سؤالاً عن مستقبلٍ متأتٍ من راهنٍ كهذا.