عندما يُصبح الهاتفُ مصدراً لـ"تفاهة الشر"

22 مارس 2023
تشان وو ـ هي في "غير مقفل": الهاتف الذكي سببٌ للاغتراب (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يُقدّم Unlocked، الفيلم الكوري الجنوبي لكيم تاي جون (2023)، حكاية شابة عزباء (تشان وو ـ هي)، وضعت كلّ حياتها في هاتفها. هذا ثمن الحياة الافتراضية، التي صارت أكثر قيمة ووَزْناً من الحياة الواقعية. صار نوعُ الهاتف وثمنه من محدّدات الهوية العصرية الجديدة للفرد. لكنْ، ماذا لو كان هاتفُك عدوَّك، الخصوصي والعمومي، رقم واحد؟

تسهل مراقبة من يعيش كلّ حياته على هاتفه، فلا يتركه لحظة واحدة. هاتف مُخترق، يعني حياة مكشوفة، تصير جحيماً لأسباب تافهة.

صارت الشابة تحتَ رحمة متلصّص مريض. يتجسّس عليها. يقلّدها. تكتشفُ أنّه يُشبهها، فتستنتج أنّها وجدت توأم الروح، لكثرة "القواسم المشتركة". بذلك، اجتاز المتلصّص العتبة الأولى، ودخل حياتها الشخصية. هكذا أزاحت التشابهات الحذرَ الغريزي لدى البشر تجاه الغرباء، وحلّت محلّها ألفة سريعة خطرة.

لماذا كلّ هذا؟

سادية مجانية. مثلٌ لِما سَمّته حنة أرندت "تفاهة الشر"، في تفسيرها الأذى الذي يلحقه البشر، بعضهم ببعض. تقول أرندت: "تكمن التفاهة في استقالة العقل والضمير عن تحمّل المسؤولية بوعي" ("آيخمان في القدس، تقرير حول تفاهة الشر"، ص 18).

هذا الفيلم ليس تحفة فنية، لكنّه ذو عمق اجتماعي. الكتابة الفيلمية فيه نتيجة ملاحظة يومية مباشرة لحياة نساء المدن المتعلّمات. هذا موضوع آنيّ، يؤثّر على حياة ملايين البشر. يلتقطُ ظاهرةً جزئية، تتدحرج وتتضخّم وتتأزّم. تتواصل الشابة مع العالم، وتعيش اغتراباً عن والدها، القريب منها مكانياً. يقوّي عشق التكنولوجيا هذا الاغتراب باسم الفردانية. هذا أحد تبعات الأولوية الحاسمة للفرد في زمن الحداثة.

هذه شابّة مصابة بهوس التواصل الدائم. من يتواصل يومياً مع هاتفه الرقمي المبرمج وسريع الاستجابة، سيجد صعوبة في التعامل، الحي والملموس، مع البشر. تعيش الشابة حياة افتراضية، بينما يعمل والدها في مهنة مادية ملموسة: بيع الأكل. هذا مجال لا مكان فيه للافتراضي. كلّما كثر سكان المدن المُدلَّلون، زادت حاجة الأفواه إلى الطعام. لكنّ عيون البشر على هواتفهم أكثر من صحونهم.

التكنولوجيا والحياة: توحي التكنولوجيا للبشر بإحساس دسم، مفاده أنّهم يعيشون في ثورة دائمة. هواتفهم تعرض الجديد كلّ ساعة. بحثاً عن الجديد، يُحمِّل الناس في هواتفهم تطبيقات، لا يعرفون وظيفتها. كلّما طُلب منهم: "هل توافق؟"، يوافقون بشكل ميكانيكي.

 

 

من يستطيع أنْ يعيش يوماً من دون هاتف؟ هناك من لا يستطيع ترك هاتفه دقيقة واحدة. هناك من كبرت أذناه من فرط استخدام السماعات. هذه توتاليتارية الهاتف الذكي، الذي حوّل كلّ الطبقات إلى جماهير، تعيش اغترابها الخاص عمَّن حولها. بدأ الفيلم بكليشيهات لقنص المشاهدين. في النصف الثاني منه، ارتفع السرد إلى مستوى أعلى. هناك مطاردة مزدوجة. النصف الثاني مُناقض للنصف الأول. فيه، تستعيد الضحيةُ المبادر. أداء الممثلين قويّ ومؤثّر.

يعرض Unlocked تفاصيل حياة فتاة، هاتفها أوّل ما تتبرّك به عندما تستيقظ. تُدخِل الآلةُ الإنسان في عزلة، وتخلق لديه مزاجاً ميكانيكياً سوداوياً. شابة مسالمة، بدليل الغلاف الأخضر لهاتفها. ثم وقعت في فخّ الجريمة الإلكترونية. ماذا يحصل للفرد حين يفقد هاتفه؟ تنتقل المعلومات الخاصة إلى الحيز العام. تصير مشاعة ومفضوحة، وهذا خطر. يمثّل الهاتف حدوداً هشّة بين العام والخاص. ماذا سيحصل لحياة المرء لو وقعت صورته ورسائله الحميمية في الأغورا؟

بعد الأزمة، انتقلت الشابّة من الدفاع إلى الهجوم. قامت برحلة طويلة في مسارات خطرة لاسترجاع الهاتف. هنا يحصل ما سمّاه فلاديمير بروب "مبارزة البطلة والمعتدي في معركة حاسمة". في رحلة رد الإساءة والانتقام، تتعرّض الشخصية لاختبارات متنوّعة، جسدية وذهنية ونفسية مشوّقة، تتزايد خطورتها بمرور الزمن. نجحت الشابّة في تحقيق هدفها، فدفَع المجرم الثمن للمرة الثانية. هنا، نكتشف حكاية أب افترس ابنه باكراً، ثم جاء وقت الحساب. غالبا ما يكون أبناء ضباط الشرطة عنيفين، بطرق مختلفة ونادرة. هكذا يعيدون إنتاج عنف آبائهم. لهذا ثمن دموي.

هذا نهج سينمائي وفني مربح. يومياً، تستثمر "نتفليكس" فيما سمته حنة أرندت "افتتان الدهماء بالشرّ والجريمة"، وحين يتكرّر هذا الشرّ ويمتدّ، يُنظَر إليه "بلا مبالاة صادقة" (حنة أرندت، "أسُس التوتاليتارية"، ص 33).

هكذا تبدأ الحكايات المشوّقة: فضولٌ وتلصّص. شرّ صغير، جلبته صدفة عابرة، يجثم ويتمدّد ويسبب خسارة في الراحة، وفي العمل، وفي العلاقات الشخصية. نموذجٌ للشرّ العادي.

كلّما سيطرت التكنولوجيا على حياة البشر، تمّ التطبيع مع هذا العنف، كلّما صار روتينياً.

المساهمون