بعد تجربة طويلة في الإعلانات، وعمله كمساعد مخرج منذ عام 2006 في السينما المصرية التجارية السائدة، كما في نظيرتها الـ"آرت هاوس"، يُصرّ المخرج المصري عمر الزهيري على تقديم سينما مختلفة، تُعبّر عن بصمة خاصة به، من دون استعجال. هذا بدا واضحاً في أفلامه القصيرة، ومنها "زفير" و"ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام بالكيلو 375"، عن قصّة قصيرة بعنوان "موت موظّف" لأنطون تشيكوف، الذي شارك في "سينيغونداسيو"، في الدورة الـ67 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2014) لمهرجان "كانّ" السينمائي، وهذا مشروع تخرّجه من "المعهد العالي للسينما" (القاهرة).
أول روائي طويل له بعنوان "ريش" شارك في قسم "أسبوع النقّاد"، في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" أيضاً (الجائزة الكبرى نسبرسو)؛ قبل مشاركته في قسم "آفاق"، في الدورة الـ55 (20 ـ 28 أغسطس/ آب 2021) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي".
حول تجربة السيناريو واختيار الممثلين والأماكن وتوقّعاته لـ"ريش"، تحدّث عمر الزهيري لـ"العربي الجديد" في هذا الحوار.
(*) ألا ترى تشابهاً بين فيلمك "ريش" ورواية "المسخ" للكاتب التشيكي فرانز كافكا؟
صحيح. هناك تشابه بينهما كفكرة. الرجل يتحوّل إلى صرصار، وردّ فعل أهله. أنا أحبّ كافكا. قرأت معظم كتبه منذ صغري. وصف النقّاد أفلامي القصيرة بأنّها كافكاوية. طبعاً هذا يسعدني.
(*) عملية كتابة السيناريو كيف صارت؟ هل بدأت بفكرة رجل تُريد أنْ تحوّله إلى دجاجة لتُنهي دوره، ثم تُكمِل الرحلة مع المرأة؟ أم كيف تطوّرت الفكرة؟
لم يكن قصدي إنهاء دور الرجل. أميل إلى الكوميديا بشكل ما، أو الـ"لايت كوميدي". اطّلعت على صُور عن دجاجة تعمل "تحميل" على شخصية، والحياة تتبدّل. قلتُ: كلّما دخلتُ بجدّية في شيء عبثي أو لامعقول، يُمكن لهذا أنْ يخلق كوميديا معيّنة، كوميديا مؤلمة. بمعنى أنّنا لا نعرف هل نضحك أم لا. كوميديا سوداء. من هنا بدأتُ، لكنْ بأفكار عشوائية. احتجتُ إلى وقتٍ طويل في صوغ النص: إعادة كتابة، ورش للكتابة، كنتُ أهدم فيها السيناريو وأعيد بناءه. آخر نسخة سيناريو تخلّصت منها، وحوّلتها إلى مَشاهد متتابعة، وما صُوِّر ليس موجوداً كلّه في السيناريو.
(*) هل اعتمدتَ على قدر من التجريب؟
ليس تجريباً. لكنّي تركتُ لعقلي مساحة للتغيير. كان عقلي مرناً ومفتوحاً على التعديل. كنتُ مقتنعاً بضرورة أنْ يظلّ الفيلم مرناً أثناء التنفيذ. لذلك، كان هناك تطوّر دائم، حتى في المونتاج. عدّلتُ مشاهد، وبدّلتُ أماكن تصوير أخرى.
(*) لماذا استبعدت خيار الممثلين المحترفين؟
لأنّ الفكرة عبثية جداً وليست واقعية. كي أُصدّقها، كنتُ أحتاج إلى أناسٍ يفاجئونني أمام الكاميرا. أسلوب التمثيل المتعارف عليه كان سيحاول أنْ يُقنعنا بالفكرة، وأنْ يبيعها لنا. أحضرتُ أناساً عاديين، يتصرّفون بشكل طبيعي، ويُخطئون أمام الكاميرا، وينظرون إلى عدستها من دون قصد، ويتكلّمون بطريقة طبيعية، وليس لديهم وعي بمواقع الكاميرا، ولن يهتمّوا بأماكن وجودهم. كأنّه وثائقيٌّ. لذلك، نُصدّقهم، لأنّهم يأكلون فعلياً، ويتخانقون فعلياً، ويزعلون فعلياً.
(*) لكنْ، ماذا لو خطرت لك فكرة عبثية مشابهة، أو فيها جانب فانتازي في المستقبل: هل ستعتمد على نجومٍ كبار في التمثيل؟ كنتُ أعتقد أنّ الجانب الاقتصادي جعلك تختار ممثلين غير محترفين.
لا. إنّه اختيار فني، وإلا لما نجح.
(*) اسمَحْ لي أنْ أختلف معك. هناك نماذج كثيرة في السينما العالمية استخدمت هذا الأسلوب الذي جمع بين العبثيّ والواقعي، ومع ذلك اعتمد على نجوم كبار صدّقناهم، والنماذج نجحت جداً. برأيي، وجود ممثلين غير محترفين ليس الفيصل في هذا أبداً.
صحيح. يورغوس لانتيموس تعاون مع نيكول كيدمان وكولن فاريل وأنجز فيلماً ("قتل أيل مقدّس" The Killing Of A Sacred Deer، عام 2017. المحرّر). لا أقول إنّ هذا قانون، لكنّه من وجهة نظري مناسبٌ لفيلمي أكثر. ربما في فيلم آخر أستعين بممثلين محترفين من دون مشكلة. شعرتُ في هذه التجربة أنّي لو أحضرتُ ممثلاً أعرفه، فلن أستطيع إخراج الفيلم. كنتُ أحتاج إلى أشخاص جدد ومختلفين، إلى من يفاجئني بطلّته ونظرة عينيه وإحساسه.
(*) إذن، لم يراودك الشعور بالمغامرة؟
في ما يخصّ أسلوب التنفيذ واختيار الممثلين، لا. بالعكس. كنتُ أبحث عن المغامرة في حركة ممثل. مثلاً: مشهد مرض الدجاجة عند ظهور الرجل فجأة من جوار الكاميرا، أو القرد الذي يقفز على السيارة. أشياء كهذه تسعدني. عموماً، الجرأة أفادتني. كنتُ أشعر أنّي غير باقٍ على شيء في السينما، وأنّي أحبّ أنْ أظلّ جريئاً.
(*) ربما لأنّك كنتَ تتعامل من منطلق أنْ لا شيء لديك تخسره، خصوصاً أنّك لا تزال في بداية الطريق.
ليس هذا فقط، بل لأنّي مُقتنعٌ بروح المغامرة، ولأنّي عندما أخرج فيلماً عام 2021، بعد كل هذا التاريخ السينمائي في مصر، عليّ أنْ أقدّم شيئاً مختلفاً. لم أتوقّع هذا التقدير كلّه: جوائز ونقد أجنبي وعربي. لم أتوقّع أبداً. كنتُ مرتاحاً فقط، لأنّي اجتهدتُ وعملتُ ما كان عليَّ أنْ أفعله. كذلك الدعم من مهرجان "كانّ" ساعدني. طبعاً، هناك أشياء كثيرة أخرى ساعدتني أيضاً، كالخطّ الكوميدي، لأنّه نادر في هذه المنطقة الدرامية. المنتجة الفرنسية جولييت لوبوتر رائعة. المصري محمد حفظي تحمّس للفيلم منذ الدقيقة الأولى.
(*) من أي مرحلة؟
كان معي منذ البداية، عندما كان الفيلم مجرّد فكرة. لكنْ، كان صعبا عليه أنْ يُنتجه وحده، لأنّه مُكلف، وفيه اختيارات فنية ليست صديقة مع السوق العربية، التي تعتمد بشكل كبير على اختيارات متعارف عليها، لم تكن مناسبة لفيلمي. الصوت مثلاً مهمّ، من أصعب الجوانب الفنية به، ومُكلف جداً. كان ضرورياً التعاون مع منتج قادر على جلب إنتاج مشارك يناسب الصوت.
(*) أسأل عن دور حفظي. هل تتوقّع أنه سيدعم تواجد الفيلم في صالات السينما في مصر، أم أنّه سيتركه لسيطرة الموزّعين؟ التجارب السابقة تقول إنّه، في ما يتعلّق بالأفلام المستقلة، يلتقط الحلوة بذكاء شديد، خصوصاً تلك التي يتوقّع أنّها ستحقّق صدى جيّداً في المهرجانات الدولية. بعضها شارك في إنتاجه في اللحظات الأخيرة، في مرحلة ما بعد الإنتاج. لكنّه لا يقف إلى جانب هذه الأفلام كما ينبغي، ولا يحارب من أجل تواجدها في الصالات. صحيحٌ أنّ له دوراً مهمّاً في الإنتاج، لكنْ، عندما يأتي وقت العرض يُتوقّع منه مساندتها بقوّة، لتحصل على حقّها. لا يصحّ أنْ نكون في القرن الـ21 ونقول إنّنا نتوقّع أنّ فيلماً لن يعجب الجمهور. يجب بذل جهد، ومنح الفيلم وقتاً كافياً، وإعطاءه حقّه في الدعاية، ثم يُترك الحكم للجمهور.
هذه ليست مشكلة محمد حفظي، بل السوق عموماً. لماذا تدعم فرنسا أفلاماً سينمائية كثيرة؟ سؤال تقني. أتعرفين لماذا؟
(*) كلا. ليس تقنياً، بل ثقافياً، بدليل دعمها لأفلامٍ من أفريقيا، خاصة من جنوب الصحراء، وغيرها من الثقافات. إنّها سياسة ذكية لمحاربة سطوة السينما الهوليوودية. فرنسا تُدرك جيداً أنّها لن تستطيع مقاومة السينما الأميركية بمفردها، لذلك تهتمّ بتقديم ثقافات أخرى بديلة، وبإقامة وتجهيز الاستديوهات، حتّى في جنوب أفريقيا.
أتحدّث عن جانب آخر له علاقة بالتقنيات. في فرنسا عددٌ كبير جداً من صالات العرض. تقريباً في كلّ منطقة هناك عدد كبير منها، بأنواعٍ وأحجامٍ مختلفة، كبيرة وصغيرة ومتخصّصة. السوق كبيرة عندهم، مع تنوّع الجمهور واهتماماته، ومع تدخّل ثقافي كما أشرتِ، ومنح فرصة للأفلام لعرضها في صالات كثيرة. "ريش" مثلاً سيُعرض في 50 صالة في فرنسا.
(*) وماذا بالنسبة إلى مصر؟
شخصياً، أتمنّى عرضه في صالاتٍ قليلة. إنّه يحتاج إلى أدوات تقنية جيدة للعرض، خصوصاً على مستوى الصوت والصورة. هنا، أطرح سؤالاً: هل كلّ صالات السينما المتاحة للـ"آرت هاوس" في مصر مُجهّزة بإمكانيات وتقنيات عالية تُناسب عرض هذا الفيلم؟
(*) هل هذا ما يشغلك، أم يُشغلك الجمهور؟
أي جمهور؟
(*) الجمهور الذي سيستقبل الفيلم في مصر؟
في الأحوال كلّها، الجمهور قليل، بالنسبة إلى فيلمي هذا، أو إلى أفلام أخرى. الجمهور قليل. لماذا؟ هل جميع الناس يقرأون كافكا؟ هل كافكا كاتب شعبيّ؟ الفيلم لا ينتمي إلى التيار الرئيسي، لهذا يجب عرضه في ظروفٍ ممتازة. لذلك، أقترح عرضه في صالات قليلة، ما يسمح له بالبقاء مدة أطول، فيُشاهده أناس أكثر. هذا رأيي. كلّما قلّ عدد الصالات، كَثُر عدد الناس. بصراحة، لا أحد يستطيع منع أيّ فيلم من النجاح. التاريخ أثبت ذلك.
(*) لا أحد يستطيع منع فيلم من النجاح. لكنْ، لا بُدّ أولاً من توفير ظروف مناسبة له. لا تُنكر أنّ الظروف، ومنها الدعاية، إما أنْ تساعد، وإما أنْ تكون عائقاً ضد عرض الفيلم. ما لاحظتُه أنّ الأفلام المستقلة في مصر لا تُصنع لها الدعاية اللائقة، كما يحدث مع الأفلام التجارية. كأنّها تُصنع في السرّ.
كيف نعمل دعاية إذا كانت مُكلفة، والأفلام المستقلّة غير مُربحة؟
(*) أتعرف ماذا فعل المخرج والسيناريست محمد أمين في تجربته الأولى "فيلم ثقافي"؟
هذا الفيلم أحبّه، ونجح نجاحاً كبيراً. لكنّي لا أتذكّر ما فعل.
(*) لم تكن هناك ميزانية للدعاية أصلاً، فعمل محمد أمين ملصقات ووزّعها في الجامعات والمعاهد والمصانع. كان يُعطي بعضها إلى أصحابه لتوزيعها في الشوارع والمقاهي، ولإلصاقها على الجدران.
فهمتُ ما تقصدين قوله. لكنْ، دعينا نتكلم بشكل براغماتي. الأفلام المستقلّة لا تُصنع كي تكون شعبيّة. هذه وجهة نظري. لا أستطيع أنْ أحكم على تجربة يسري نصرالله مثلاً من فيلم واحد، ولا من أنّها كانت تربح أو تخسر في السوق. هو مُفكّر قبل أنْ يكون مخرجاً.
(*) هل لديك مشاريع جديدة؟ هل ستوافق على إخراج أفلامٍ تجارية، بما أنّك لا تزال تعمل في الإعلانات؟
أنا أعمل مساعد مخرج أصلاً في السينما التجارية. قادمٌ من مجالي التجاريّ والـ"آرت هاوس". أعمل في الإعلانات منذ سنين، وسأكمل فيه. هذا طبيعي. لن أستطيع القول إنّي سأصنع سينما تجارية أو غير تجارية، لكنّي لن أُخرج فيلماً ليس على مزاجي. لا بُدّ أنْ أكون مُقتنعاً به، ومسيطراً فنياً عليه بشكلٍ كامل. لن أكون مفيداً للفيلم إذا أنجزته بالمعايير التقليدية. سيكون مُضرّاً. لا بدّ أنْ يكون المشروع "في ملعبي"، كي أنجزه بطريقتي.
في ما يخصّ السينما التجارية، إحساسي أنّ روح السخرية التي أفضّلها ستُسبّب "وقوع" الفيلم. لا أعرف استخدام البساطة المطلوبة لفيلمٍ كوميدي، كـ"الناظر" (لشريف عرفة، 2000. المحرّر). لكنْ، عموماً، أنا أتكلّم عن الوقت الحالي لا عن المستقبل. حالياً، لديّ اهتمامات أخرى. أحتاج إلى اكتشاف أشياء في عقلي، وربما أُخرج مسلسلاً صغيراً، لن أرفض.