عقد على الثورة المصرية... الجدران والأغنيات ومدرّجات الملاعب

25 يناير 2021
استُهدفت أعين المتظاهرين وكان الأمن يحتفي بإصابتها (Getty)
+ الخط -

ليس لدى الشعوب سلاح أقوى من الذاكرة. والضمير الشعبي يتأسس كمخزون في الذاكرة من الصور والحكايات والأحداث التي تبدأ بالتكون عفوياً ثم تتشكل فنياً، ويستمد منها الإنسان طاقته وآماله في التغيير. وذاك الضمير هو الذي يبقي ثورته ملتهبة تحت رمادٍ، يظنّ المستبدون أنهم أطفأوا جذوتها. وبالمقابل، ليس هناك أكثر قسوة على المستبدين من سلاح الذاكرة، لذا يعمدون بكل ما امتلكوا إلى طمس ذاكرة الثورة، كي ينسى الشعب أنه قادر على إزاحتهم كما حدث في يناير. ولذا، بذلت الدولة العميقة جهوداً عظيمة ولا تزال في هذا المجال.

طمس الغرافيتي 
رسومات الجدران المطلّة على وزارة الداخلية في شارع محمد محمود تتوجه بأصابع الاتهام نحو جهاز الشرطة وتوثق ما قام به ضد المتظاهرين السلميين من اغتيالات وإصابات. تذكرنا اللوحات بكل أسباب الثورة عبر آلاف اللوحات المبدعة. هذه لوحة لمبارك برأس تنين وبجوارها عبارات "ارحل"، و"لا للفساد"، وهذا إنسان يصرخ هاتفاً "تحيا الثورة". وهذه رسومات توثق أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء وماسيبرو، وتذكرنا بالشهداء؛ فمن صورة الشيخ الأزهري عماد عفت إلى الثائر مينا دانيال، إلى آخرين أقل شهرة، وصولاً إلى شهداء مجهولين قتلوا غدراً ولم يتعرف عليهم ذووهم.
هذه عبارة: "جدع يا باشا جت في عينه" وثيقة لا تنسى، والتي نقلتها الكاميرات، على لسان أحد الجنود وهو يهنئ قائده الضابط الذي فقأ برصاصه عين أحد المتظاهرين. وهنا طمس الفنانون اسم شارع محمد محمود وكتبوا عليه عبر غرافيتي كبير "شارع عيون الحرية"، وصولاً إلى غرافيتي الألتراس حول شهداء مذبحتي بورسعيد والدفاع الجوي. 
تزاحمت اللوحات المتلاصقة في ميادين مصر وشوارعها، حتى أصبحت مصر أكبر متحف فني مفتوح في التاريخ. تجاورت اللوحات بصورة عفوية، ولم يتعدَّ فنان على لوحة الآخر ليرسم لوحته. كان سلوكاً عبقرياً، لكنه أيضاً كان مزعجاً للدولة العميقة التي تخطط من اليوم الأول للخلاص من الثورة ولوحاتها التي تشير إلى الجناة والفاسدين.  

بعد 30 يونيو، قامت السلطة بإزالة الغرافيتي من ميدان التحرير وما حوله من شوارع القاهرة

كانت أول محاولة لإزالة غرافيتي ميدان التحرير في شهر سبتمبر/ أيلول 2012، وحين غضب الناس والفنانون، خرج رئيس الوزراء هشام قنديل معتذراً. وبعد 30 يونيو، قامت السلطة بإزالة الغرافيتي من ميدان التحرير وما حوله من شوارع القاهرة.
وبالرغم من المحاولات السلطوية المستميتة لإزالة ذاكرة الثورة، فإن محاولات المصريين لتوثيق تلك المرحلة استثمرت وسائل أخرى، فقاموا بتصوير الجدران، وكان كتاب "الجدران تهتف: غرافيتي الثورة المصرية" أول كتاب يوثق لوحات الثورة الجدارية التي أزيلت، وأنشأ ناشطون مجموعات إلكترونية مفتوحة على مواقع التواصل الاجتماعي لتوثيق غرافيتي الثورة، وكان من أكثرها بلاغة ذلك الرسم الذي حمل صورة أيقونة الثورة خالد سعيد، وتحته عبارة مؤلمة تقول: "اللي قتلك لسه حي"... وأن "الثورة مستمرة"!  

أغاني الميدان 
صار ممنوعاً أن تذاع إحدى أغاني الميدان التي ملأت الإذاعة والتلفزيون بعد الثورة. وشيئاً فشيئاً، أصبح نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة شبهة ثورية تستوجب العقاب. ولم ينقذ تلك الأغنيات سوى الثورة التقنية ومواقع التواصل الاجتماعي وقنوات الإنترنت. 
في البداية، لجأ الشباب في اعتصاماتهم للأغاني الوطنية الكلاسيكية، وكان لأغاني التمرد الموروثة للشيخ إمام حضور كبير. لكن سرعان ما أنتج المتظاهرون فنّهم الخاص، تعددت حلقات الشباب داخل الميدان، بعضهم يلقي أشعاره، وبعضهم يمسك عوده أو غيتاره، يغنون بتلقائية الثورة وبكارة التجربة.

ممنوع أن تذاع إحدى أغاني الميدان التي انتشرت وقت الثورة

وكان ذلك إيذاناً بظهور مجموعة من الأغاني الثورية التي خرجت من رحم الميدان. من بين تلك الأغاني التي نشأت قبل أن يعلن مبارك التنحي أغنية "يا مصر هانت وبانت" للشاعر تميم البرغوثي، ولحنها وغناها المطرب مصطفى سعيد، ومطلعها: "يا مصر هانت وبانت كلها كام يوم/ نهارنا نادى ونهار الندل مش باين". وأغنية "ياه يالميدان" التي غنتها عايدة الأيوبي مع فرقة كايروكي، وحظيت بشعبية كبيرة أثناء الثورة وبعدها. تصف الأغنية وضع المتظاهرين أصحاب النوايا الصافية رغم اختلاف مشاربهم الأيديولوجية، وكيف تحول الاعتصام إلى مجتمع مثالي خاص لم تعرفه مصر. وكانت لثيمة الشوق في الأغنية التي تتساءل عن سر الثورة أثر كبير في رواجها لتعبيرها عما بدواخل الناس آنذاك: "ياااه يالميدااان... كنت فين من زماااان؟!".


وغنّى هاني عادل وأمير عيد أغنية مميزة في تصويرها، اشتهرت باسم "في كل شارع في بلادي/ صوت الحرية بينادي"، شارك في تصويرها البسيط مجموعة من المتظاهرين من داخل الميدان، حملوا كلمات الأغنية متفرقة على لافتات كتبت بتلقائية بخط اليد كما كان يحدث أثناء الثورة: "نزلت وقلت أنا مش راجع/ وكتبت بدمي في كل شارع. سمّعنا اللي مكنش سامع/ واتكسّرت كل الموانع".


كذلك غنت فرقة "أنا مصري" من كلمات ياسر الليثي: "ملعون أبوك يا سكوت أنا حلمي مش هيموت/ لو سلسلوا خطوتي أنا لسه فيا الصوت". وغنى عدد من المطربين أغنية "فلاني الفلاني" للشاعر مصطفى إبراهيم، كالمطرب مصطفى أمين من ألحان صهيب شكري، والمطرب باسم وديع من ألحان محمد عنتر. وتحكي كلمات الأغنية قصة متظاهر مجهول لا يُعرف اسمه رغم دوره البطولي الذي تفرع على جبهات الميدان، ودون أن يتاجر بموقفه السياسي، بقي صامداً من دون أن ييأس، ثم كانت نهايته أن يكون شهيداً مجهولاً.

وغير ذلك من الأغاني الرائعة مثل أغنية الشهيد "يا بلادي يا بلادي" التي كتبها عزيز الشافعي، وأدّاها مع رامي جمال، وفيها يخاطب الشهيد أبناء وطنه: "قولوا لأمي ما تزعليش/ أموت أموت وبلدنا تعيش". وغنى محمد الصنهاوي من ألحان صهيب شكري ومن كلمات إسلام هجرس: "يا حضرة العسكري/ أنا حضرة الثاير. أنا اللي حلمي ابتدا/ لبلادي في يناير". كذلك قدم ياسر المناوهلي مجموعة من الأغاني الساخرة من النظام والإعلام الذي اتهم أبناء التحرير بالخيانة.

تصفية الألتراس 
أخذت السلطة منذ ثورة يناير على عاتقها تدمير ظاهرة الألتراس. صدام الألتراس والنظام كان مبكراً، حين أطلقوا على رجال الشرطة (ACAB) اختصاراً لعبارة "كل رجال الأمن أوغاد". لذا، شن إعلام السلطة هجوما على الألتراس. اللغة المباشرة والجارحة في هتافاتهم وأغانيهم كانت سلاحهم الذي أفقد النظام صوابه في 25 يناير وما بعدها، ولا تزال تخيف نظام 30 يونيو. وفي فوضى الأحكام القضائية، صدر في 2014 قانون يقضي باعتبار الألتراس جماعات إرهابية محظورة، متزامناً مع قرار بمنع الجماهير كافة من حضور المباريات. 

شن إعلام السلطة هجوما على الألتراس. اللغة المباشرة والجارحة في هتافاتهم وأغانيهم كانت سلاحهم الذي أفقد النظام صوابه في 25 يناير وما بعدها، ولا تزال تخيف نظام 30 يونيو

كانت مفاجأة سارة للمتظاهرين أن يجدوا دخلات رياضية مميزة للألتراس إلى ميدان التحرير. حيث أفاد أعضاء الألتراس المتظاهرين كثيراً في تنظيم الصفوف، ومواجهة الأمن والمرتزقة بصورة كبيرة. وكان من أغانيهم الثورية: "قولناها زمان للمستبد/ الحرية جاية لا بد".

وفي مباريات كرة القدم، كانت هتافاتهم ضد فساد الشرطة موجعة، ولا تخلو أغانيهم من ألفاظ يصفها خصومهم بأنها "مبتذلة"، ومن أشهر أغانيهم التي ملأت المدرجات: "كان دايما فاشل في الثانوية/ يا دوب جاب 50 في المية. بالرشوة خلاص الباشا اتعلم/ وخد شهادة بـ 100 كلية". 
صوت الألتراس كان أعلى من صوت القضاء المسيس والسلطة التنفيذية. وحين سُمح لهم بحضور تدريبات النادي الأهلي، غنّوا في استاد مختار التتش: "خافي منا يا حكومة/ جايين الليلة ناويين. شباب الثورة ولّعوها/... أم الضابط ع الأمين". 

محاصرة الدراما
تنوّعت محاصرة ثورة يناير فنياً بفرض رقابة أمنية على جميع الأعمال الفنية، وتطورت الأوضاع إلى احتكار الإنتاج في يد شركات تابعة للمخابرات العسكرية. بدأت الحملة ضد الفنانين المشاركين في الثورة بتشويه سمعتهم والنيل منهم عبر توجيهات إعلامية وكتائب إلكترونية واضطر بعضهم للرحيل خارج مصر. ثم كان التضييق على أي أعمال فنية تتحدث عن الثورة أو تقترب من فكرة الحريات، إضافة إلى صناعة أعمال فنية تناصب العداء للثورة وأبنائها. 

رقابة أمنية على جميع الأعمال الفنية، تطورت الأوضاع إلى احتكار الإنتاج في يد شركات تابعة للمخابرات

ضيق المسافة الزمنية، بين انتصار الثورة في 11 فبراير 2011 وانكسارها في 30 يونيو 2013؛ كان له أثر سلبي ظاهر على الفن الحرّ وأنصاره، فسرعان ما صار الانتماء إلى 25 يناير خطيئة تستوجب بطش الأجهزة القمعية وأنصار الثورة المضادة. واعتماد فكرة أن الثورة كان عملاً فوضوياً. ثم العمل على نقض مكتسبات الثورة واحد تلو الآخر بشراسة. بالرغم من ذلك أُنجزت القليل من الأفلام السينمائية الجيدة في الفترة القليلة اللاحقة لتنحي مبارك، حتى 30 يونيو، حيث انقشعت شمس الحرية والإبداع حتى إشعار آخر! ومن تلك الأعمال: فيلم صرخة نملة 2011، حظ سعيد 2011، بعد الموقعة 2011، ويقصد بالموقعة (موقعة الجمل)، فبراير السود 2013، الشتا اللي فات 2013، وبعد الطوفان 2013. كذلك اتجهت السلطة إلى محاصرة أي مسلسلات تتناقش قضايا الحرية والاستبداد مثل مسلسل "أهل إسكندرية" الذي منعته من العرض.

المساهمون