خسرت "رويترز"، يوم الجمعة، مصورها التلفزيوني عصام عبدالله (37 عاما) الذي قتل خلال تغطية لهجمات صاروخية إسرائيلية على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وهو زميل التقطت عينه وعدسته تغطيات لبعض أهم القصص الإخبارية في العالم على مدى العقد المنصرم بشجاعة وتعاطف وبصيرة.
وكما يروي زملاؤه وأوضحت تغطياته، تفوق الراحل عبدالله في نقل القصص الإخبارية عمن يعيشون في أوج الأزمات والكوارث، سواء كان ضمن فريق تغطية الحرب على "داعش" في سورية والعراق، أو الغزو الروسي لأوكرانيا، أو تبادل لإطلاق النار في شوارع بلده لبنان.
وبعد مهمة عصيبة في أوكرانيا، العام الماضي، كتب لرؤساء التحرير في "رويترز": "تعلمت خلال كل السنوات التي غطيت فيها صراعات وحروباً مع رويترز في أنحاء المنطقة، أنّ الصورة لا تنقل فقط جبهات القتال والدخان، لكنها تنقل القصص الإنسانية التي لا يعرفها أحد وتمسنا جميعاً من الداخل".
ونال عبدالله ترشيح "رويترز" لمصور تلفزيون العام في 2020، لتغطيته المميزة لانفجار مرفأ بيروت، إذ قدم للعالم أول وأقوى اللقطات للكارثة. وكان من بين أفراد فريق أكبر فاز بالجائزة في 2022 عن تغطية الحرب في أوكرانيا.
وقالت إليانور بيلز، مديرة التصوير التلفزيوني لـ"رويترز" في أوروبا: "كان لديه شغف بأن ينقل القصص التي يراها تتكشف أمام عينيه. هذا الشغف كان هو هو خلال تغطية زيارة باباوية أو تغطية زلزال".
ولدى تغطيته للأحداث في بعض أخطر أماكن العالم، عُرف عبدالله بين زملائه بأنه حريص وحذر في البيئات والأجواء والمواقع الصعبة التي يعملون بها، وبذل جهداً كبيراً لضمان سلامته وسلامة زملائه.
وخلال مهمة عصيبة أخرى استمرت لعدة أسابيع في 2019، كان عبدالله من أوائل الصحافيين الذين نقلوا الأنباء العاجلة لاستسلام المئات من مسلحي "داعش"، الذين كانوا يتحصنون في آخر معاقلهم في شرق سورية.
وقالت إيلين فرنسيس، وهي مراسلة في صحيفة واشنطن بوست، وعملت من قبل مع "رويترز"، والتي كانت معه هناك "كان يغطي الأحداث بشجاعة ومسؤولية".
وفي وقت انزلق فيه بلده لبنان لانهيار اقتصادي وأزمة سياسية لا نهاية لها في الأفق، كان عبدالله هو الذي يلطف الأجواء ويبهج المزاج العام في مكتب "رويترز" في بيروت بصداقته الوثيقة مع زملائه وأسرهم.
ويقول صحافيون في مكتب "رويترز" في بيروت، إنه "أحب جمعهم معاً وعادة ما جاء بوجبات إفطار كبيرة للمكتب بأكمله، وتجد يده طريقها إلى الكاميرا مراراً لالتقاط صور جماعية".
استراح عبدالله في مثواه الأخير، أمس السبت، في مسقط رأسه في بلدة الخيام جنوبي لبنان، ودفن بجوار والده الذي توفي العام الماضي. وبقي من أسرته والدته وشقيقان وشقيقة.
وقال الجيش اللبناني إنّ إسرائيل هي من أطلقت الصاروخ الذي قتله، وقال مراسل آخر من "رويترز" في الموقع إنّ قذائف انطلقت من ناحية إسرائيل هي التي قتله. وقال الجيش الإسرائيلي "إنه سيحقق في الأمر".
وطالبت "رويترز" الجيش الإسرائيلي بأن يجري تحقيقاً "شاملاً وسريعاً وشفافاً". وقالت إنّ من "الضروري للغاية أن يتمكن الصحافيون من نقل الأحداث بحرية وأمان".
وشيع المئات جثمان عبدالله الملفوف بالعلم اللبناني، ووضع صحافيون كاميراتهم على قبره تكريماً لذكراه وأقاموا الصلاة عليه ورددوا له الدعوات.
بدأ عصام عبدالله في تقديم لقطات لـ "رويترز" قبل نحو 16 عاماً، وهو يعمل حراً أثناء استكماله لدراسته الجامعية. وقال لطفي أبو عون، رئيس تحرير أخبار الشؤون الخارجية في وكالة آي تي إن نيوز، الذي عين عبدالله عندما كان يعمل كبيراً للمنتجين في "رويترز": "شغفه كان معدياً واحترافيته لا غبار عليها وإنسانيته كانت شعاع ضوء ساطعا في أحلك الأماكن".
هذا الشغف كان واضحاً جلياً لكل من يقابله، إذ رافقته الكاميرا التلفزيونية وكاميرا التصوير الفوتوغرافي أينما ذهب وهو يجوب بيروت على دراجته النارية.
كان يصور قصصاً عن الجانب الطريف والملفت من الحياة اليومية بنفس المهنية التي يغطي بها الرعب الذي تأتي به الحرب في هذا الزمن. وقصصه الخفيفة التي عادة ما غطت مهرجانات موسيقية صيفية في لبنان أو تناولت موضوعات عن الحيوانات، أعطت فكرة عن روح الدعابة المرحة التي جعلته محبوباً أكثر لدى زملائه.
وأول لقطات قدمها كانت لاشتباكات في بيروت في 2007، وغطى معارك كبرى بين لبنانيين في العاصمة في العام التالي.
بالنسبة إلى لبيب ناصر، كبير منتجي قسم التصوير لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في "رويترز"، فقد وصل عبدالله لأوج مهاراته وهو يغطي اللحظات التي سادتها الفوضى بعد انفجار مرفأ بيروت في 2020، الذي دمر مساحات شاسعة من المدينة وألحق أضراراً بمكتب "رويترز" وقتها.
وبعد دقائق قليلة فحسب من الانفجار المروع الذي أصاب الجميع بالارتباك والصدمة، قدم عبدالله لقطات حية وهو يقود دراجته النارية عبر الشوارع التي ملأها الغبار للوصول لموقع الكارثة، ولم يتوقف إلا ليجري مقابلة مع أحد المصابين في الطريق.
وقال ناصر إنه وبمجرد وصوله للمرفأ، قدم للعالم أول مشهد لصوامع الحبوب المدمرة في المدينة، بما زود الجميع "بهذه الصورة التي أصبحت المشهد (الأيقوني) المعبر عن القصة".
ومن بين أعماله بعد ذلك توثيق قصة ليليان شعيتو، اللبنانية التي تسبب الانفجار في إصابتها بالشلل والخرس، وهو توثيق كان له أثر كبير، لدرجة أن أسرتها تمكنت من جمع أموال كافية لنقلها لتركيا لتلقي العلاج.
وعندما طلبت منه أسرتها عدم الدخول بكاميرا كبيرة لغرفتها في المستشفى، دخل بهاتفه المحمول فقط وقدم نفسه لها وطلب إذنها أولاً قبل التصوير وانتظر بصبر حتى أشارت بعينيها بالموافقة.
وقالت سامية نخول، محررة السياسة الخارجية الدولية في "رويترز": "إخلاص عصام الراسخ لعمله وإيمانه بقوة تأثير اللقطات، سيظل محفوراً في ذاكرتنا". وتابعت قائلة "عبر لقطات كاميرته التي كانت تنقل بثاً حياً، شهد العالم القذيفة القاتلة التي أودت بمأساوية بحياته".
(رويترز)