في كتابه "كتابات في فهم السينما" (خطوط وظلال للنشر والتوزيع، عمّان، الطبعة الأولى، 2021)، يكتب الناقد الأردني عدنان مدانات نصّاً بعنوان "مقابلات سينمائية" (ص 334 ـ 336)، يتضمّن طرحاً نقدياً مهمّاً، يستدعي نقاشاً مطلوباً. لذا، تنشر "العربي الجديد" مقتطفات منه:
"يُذكر في مقدّمة أفلام روائية كثيرة أنّ القصة مبنية وفق أحداثٍ حقيقية. القصد من هذا إضفاء مصداقية مسبقة على أحداث الفيلم. مع ذلك، لا يُمكن للأحداث المُعاد بناؤها في الفيلم أنْ تكون حقيقية، بل تبقى مجرّد تمثيل يوهم بالحقيقة، إذْ يستحيل مطابقة الأصل عملياً، والتزام تفاصيله بدقّة، فنّياً وسرداً درامياً.
"من الأساليب الإضافية لمحاولة إضفاء مصداقية على الأحداث، التي باتت تُستخدم على نطاق واسع في أفلام روائية معاصرة كثيرة، تصوير مشاهد يجلس فيها الممثلون في مواجهة الكاميرا، ويخاطبون المتفرّجين مباشرة على شكل مقابلات مع ممثلين، يروون أو يعترفون أو يدلون بشهاداتهم، فيبدو الفيلم الروائي كأنّه تسجيلي، يُصوّر ويوثِّق أحداثاً حقيقية، ويُقدّم أشخاصاً حقيقيين. طبعاً، مقدار المصداقية في حالات كهذه يعتمد على صدق النوايا وسلامة المنهج. لكن، ما يحصل في غالبية الأفلام أنْ ما يجري مجرّد استغلال لإمكانية الإيهام بالحقيقة، لزيادة عناصر التأثير على المتفرّجين أثناء مشاهدة الأفلام.
"يختلف الوضع هنا عن التجارب التي ظهرت عبر تاريخ السينما، الهادفة إلى الاستفادة من المنهج التسجيلي لعرض رؤية وتحليل موضوعيين لحدثٍ أو قضية، كما كان عليه الأمر بالعلاقة مع تيار السينما السياسية، الذي تبلور على شكل مدرسة في السينما الإيطالية، منذ ستينيات القرن الـ20، ذات منهج جديد يعتمد على إعادة بناء الوقائع، ويستفيد من الوثائق لبناء الوقائع. وذلك على أيدي مجموعة من المخرجين، أبرزهم فرانشيسكو روزي. مدرسة تأثّر بمنهجها مخرجون معاصرون كثيرون، كالأميركي أوليفر ستون، خاصة في فيلمه عن اغتيال جون كينيدي.
"إذا كانت الأفلام الروائية، التي تُشبه الأفلام التسجيلية، لا يُمكن أن تكون صادقة تماماً، فهل ينطبق الحال على الأفلام التسجيلية نفسها؟ بشكل عام، يُفترض بالفيلم التسجيلي أنْ يكون وثيقة عن الواقع، وذا مصداقية معرفية ومعلوماتية تُقنع وتؤثّر بالمشاهدين. علاقة الفيلم التسجيلي بالواقع علاقة بنيوية جوهرية، يُصبح الفيلم من خلالها نوعاً من عكس وإعادة تنظيم للواقع نفسه. هذه القاعدة كانت أساس السينما التسجيلية منذ بداية اختراع السينما، وحتى نهاية فترة السينما الصامتة. كانت القاعدة التي تأسّس عليها فنّ السينما التسجيلية: تصوير تفاصيل الواقع الحقيقية، أشخاص وأماكن وأحداث، ثم إعادة تنظيمها في فيلمٍ.
"بعد اختراع الصوت، دخل عنصرٌ جديد على بنية ومنهجية الفيلم التسجيلي، صوت المعلّق الذي يسرد ويُفسّر، وسرعان ما تبع ذلك عنصر جديد، المقابلات الحية مع الأشخاص الذين يظهرون في الفيلم".