يزداد البؤس في بيروت، مساحةً وعمقاً وأنماط عيش. كلّ يومٍ، بل كلّ لحظة، يكتشف المرء أنّ المفاجآت القاتلة غير منتهية. أنّ صانعي البؤس يتفوّقون على أنفسهم في صُنع الموت، والموت هذا لا علاقة له بالمفهوم التقليدي. أنّ الصمت الجماعي، معطوفاً على قبول وخنوع وانكسار، ثقافة أصيلة في وجدان وتربية وسلوك. أنّ الغالبية الساحقة متورّطة في خرابٍ يؤدّي إلى بؤسٍ، والنهاية معلّقة، فصانعو البؤس يتلذّذون بإطالة عمر القهر والتعذيب قدر الإمكان. أنّ المدينة مؤهّلةٌ للفناء لا للحياة، ومنذورةٌ للمتاهة لا للسكينة.
يزداد البؤس ويتمدّد. ينتعش من أحوالٍ موغلة في العتمة والألم والخيبة والهذيان. يُطوِّر نفسه أيضاً. يتفنّن في اختراع أشكالٍ جديدة له، ليزيد عتمةً وألماً وخيبة وهذياناً. يُبلور مشروعاً أبدياً، فالتُربة البيروتية صالحةٌ لمشروع أبديّ، يرتكز على شرورٍ، يعجز الشيطان نفسه عن صُنع مثيلٍ لها. التُربة البيروتية صالحةٌ لأنْ تكون ملاذاً يُنتج أشباحاً وكوابيس، تنقضّ على أناسٍ يظنّون أنّهم يخشون الأشباح والكوابيس، لكنّهم يتأقلمون سريعاً معها، ويتعايشون سريعاً معها، ويتّفقون سريعاً معها.
تقول نرجس (دلال عبد العزيز)، في "عصافير النيل" (2010) لمجدي أحمد علي، إنّها تخشى عتمة القبر، فتطلب لمبة تُضيء تلك المساحة الأخيرة لها، كي تعتاد عتمة النهاية. ألن تكون بيروت اليوم، بعتمتها، قبراً يتّسع لكثيرين يشتمون عتمتها، ويتغاضون عن موتها فلا يدفنونها، لعلّها تستريح وتُريح، ولعلّهم ينتفضون حينها، أي عند دفنها، فينتبهون إلى أنّهم أمواتٌ منذ أزمنةٍ قاهرة؟ ألنْ تكون عتمة بيروت اليوم، بقبورها المرسومة بيوتاً وأبنية وشوارع وفضاءات وحياة وسلوكاً، أكثر فتكاً من تاريخها الملعون والمُشوَّه، ومن حاضرها الموبوء بفسادٍ ونهبٍ وقتلٍ مستدام، ومن مستقبل مسروقٍ منذ فجر الخليقة؟ أتحتاج بيروت وناسها إلى لمبة صغيرة في قبرٍ، يلفظ المدينة لرائحتها الكريهة، ويلفظ ناس المدينة لانهزامهم، ولصمتهم على الهزيمة؟
"لي قبور في هذه الأرض"، تُعنون رين متري فيلماً لها (2014)، يستعيد شيئاً كثيراً ومهمّاً وخطراً من تاريخ بلد وذاكرة أناس. التاريخ معطّل، والذاكرة مثقوبة، لكنّ الفيلم تحريضٌ يُمنَع تفشّيه بين الناس لأهميته وخطورة ما يبوح به من وقائع ومعطيات. بيروت مليئة بالقبور، منذ خديعة السلم الأهلي (بدءاً من 13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990)، والإقرار المشبوه لقانوني العفو العام ودمج المليشيات في أجهزة الدولة، الأمنية والعسكرية (مطلع تسعينيات القرن الـ20). بيروت صانعة قبور، فملفات حربها المُعلّقة مفتوحةٌ من دون نهايات مطلوبة، ومسائل سلمها الهشّ غير مُثيرة لاهتمامٍ منشود، فأمراء الحرب المفتوحة يُصبحون ملائكة سلمٍ منقوص، بأسلحتهم وثقافاتهم والتزاماتهم السابقة.
في مشهدٍ كهذا، تغيب السينما كلّياً، رغم إنجازات متفرّقة، تعكس بعض عيشٍ. لكنّ العيش اليوميّ قبرٌ مفتوحٌ أمام جثثٍ ونفاياتٍ وعفن.