- عبد الحميد ساهم في تطوير التمثيل وإبراز المواهب مثل بسام كوسا، مما يُظهر تنوع مواهبه وتأثيره الفني والثقافي في السينما السورية.
- رحيله يُعد دعوة لإعادة النظر في إرثه السينمائي وتأثيره على الهوية الوطنية والاجتماعية، وكيف تُساهم أعماله في الحوار حول القضايا المعاصرة.
انتقاءُ فيلمين، أو أكثر بقليل، من أفلام مخرجٍ، يُنجزها في 35 عاماً، لا ينتقص من نواة أساسية في سيرته المهنيّة، ولا يتجاوز لحظة حزنٍ منبثقٍ من رحيله، ولا يُلغي معنى النقد، وإنْ يترافق النقدُ مع موتٍ، يبقى (الموت) مؤلماً في الأحوال كلّها، والألم ينال ممن يعرف المخرج، شخصياً وسينمائياً.
رحيل السوري عبد اللطيف عبد الحميد، ليل الأربعاء ـ الخميس، 15 ـ 16 مايو/أيار 2024، دافعٌ إلى تفكيرٍ بالقول السابق، في نصٍّ غير متحرّر كلّياً من ألمٍ ذاتي، رغم أنّ أعواماً كثيرة تفصل بين آخر لقاء ولحظة الموت. نصّ يبغي تحيةً، لكنّه يعجز عن عدمِ قولٍ نقديّ، يُختَصر بأنّ في نتاجاته اللاحقة على أول فيلمين روائيين طويلين له، "ليالي ابن آوى" (1989) و"رسائل شفهية" (1991)، ما "يُغري" في استعادة هذين الفيلمين تحديداً، مع أنّ في النتاج اللاحق عليهما أفلاماً مُحبَّبة، رغم قلّتها.
رحيل عبد الحميد (مواليد 5 يناير/كانون الثاني 1954) يُثير بالتالي سؤالاً، في السينما والواقع واليوميّ: الشرخٍ العميق والخطر في الاجتماع السوريّ يُصيب سينماه أيضاً، إلى حدّ أنّ هناك من يُطلق تلك العبارة، الأسوأ من إجرام نظامٍ بحقّ بلد وشعبٍ: "سوريّو الداخل وسوريّو الخارج". وهذا ـ إذْ ينطبق على المخرجين والمخرجات، كما على عاملين وعاملات في مهنٍ، وعلى منتمين ومنتميات إلى فئات وطبقات ـ يضع السينما التي يصنعها مُقيمون ومُقيمات خارج البلد لأي سببٍ، في إطار تخوينيّ قاسٍ، يُثبت عكس المبتغى من هذا الإطار: من "يُتَّهم" به، وإنْ مواربةً، أكثر التزاماً ببلدٍ وشعبٍ وتعبيرٍ وموقفٍ من ذاك "الداخل"، أو من بعضه على الأقلّ، والجُرم اللاحق بالبلد والشعب يدفع هؤلاء إلى هجرةٍ قسرية من الجغرافيا، لا من السينما، التي تظلّ مرتبطةً بالجغرافيا، شعباً وثقافة وتاريخاً وحياة، وموتاً أيضاً. هذا يحتاج إلى نقاشٍ، يخرج من نصٍّ يودّع سينمائياً، له في قلب الناقد وروحه مكانةً أجمل من أنْ ينفيها واقعٌ يوميّ مؤذٍ.
فالرحيل دعوة إلى استعادة زمنٍ، فيه لحظاتٍ يصعب نسيانها، وبعض تلك اللحظات يرتبط بأول مُشاهدة لأول فيلمين، يعلقان في ذاكرة فردية، كما في شعور وتفكير. وإذْ يدفع الفيلمان إلى لعبة إسقاطاتٍ نقدية، في السياسة والسلطة والاجتماع والعلاقات، يُمكن مشاهدتهما، في الوقت نفسه، كنصّين حيويين في ابتكار لغةٍ بصرية، تروي حكاياتٍ، وتكشف حالات، وتقول بوحاً في تفاصيل تُعاش يومياً في بيئات كثيرة. وهذا، إذْ يحول دون تأطير الفيلمين في خانات ثابتة، يُحرِّض أيضاً على تأمّل إضافيّ في مناخٍ وأداء وسرد، ويكشف بداية تكوين علاقة سينمائية، تنحو لاحقاً إلى الشخصيّ، بممثل (بسام كوسا)، يخطو في التمثيل خطواتٍ تجعله يُتقن فنّ تطوير الذات، والتعمّق في كيفية إيجاد منافذ لها خارج المكتوب فقط. ينسحب قول هذا على ممثلين وممثلات آخرين، العلاقة بهم وبهنّ باقيةٌ في المُشاهدة والمتابعة.
العلاقات العائلية، في "ليالي ابن آوى"، ضاغطةٌ وغير سوية، فالسلطة للأب، والخضوع لن يرضى به جميع الأبناء والبنات، ما يعني أنّ تمزّقاً يحصل، واختلافاً يتمدّد في البيت، وفي الخارج منه وعنه، والانشقاق حاصلٌ. أمّا الحبّ في "رسائل شفهية"، الممنوع بسبب قُبحٍ في وجه العاشق، فيُصبح إطلالةً على خبايا نفس وخفايا روح، وعلى مسام ذاتٍ وجماعة. والإسقاط، إذْ ينبثق من تمرينٍ على الكتابة ولو في لحظة حزنٍ كهذه، يقول إنّ الفيلمين مرايا بيئة واجتماعٍ، وإنّ فيهما تفكيكاً لبُنى اجتماعية وسياسية وحياتية، وإنّ احتيالاً بصرياً يتفنّن في تشريح بعض الحاصل، عبر منافذ تصنعها السينما، صورةً وسياقاً وأداءً.
والتمثيل، الذي يُساهم عبد اللطيف عبد الحميد، أحياناً، في صقله، من دون التغاضي عن جهد ممثل ـ ممثلة في جعل الصقل تدريباً على اختراع جديدٍ أو مختلف، وإنْ بين حين وآخر؛ التمثيل هذا نزوةٌ فنية له، إذْ يعثر في أفلامٍ أخرى على حيّز لتمرينٍ، يُبعده عن كرسيّ الإخراج إلى أفقٍ آخر، يُتيح له متنفّساً، يُفترض به (المتنفّس) أنْ يمنحه مزيداً من مفرداتٍ، تُضيف على الإخراج ما يمنع عنه كسلاً أو استسلاماً إلى المُنجز سابقاً، بل إلى آلية إنجاز السابق على التمثيل، أي الإخراج.
لكنْ، أيكون تمثيل عبد الحميد إضافة فعلية ومُثمرة لاشتغاله في الإخراج، أم أنّه نزوة، جميلة بالتأكيد، لا أكثر؟ الرحيل قدرٌ لا فرار منه. المؤلم فيه أنّ راحلين وراحلات قريبون من ذاتٍ وروح، إنْ عبر اشتغالٍ، أو مع صداقة وبفضلها. رحيل عبد اللطيف عبد الحميد مؤلم. لكنّه قدرٌ لا فرار منه أيضاً.